قوله تعالى : ( أم تريدون أن تسألوا رسولكم كما سئل موسى من قبل ومن يتبدل الكفر بالإيمان فقد ضل سواء السبيل ) اعلم أن ههنا مسائل :
المسألة الأولى : " أم " على ضربين : متصلة ، ومنقطعة ، فالمتصلة عديلة الألف ، وهي مفرقة لما جمعته ( أي ) كما أن " أو " مفرقة لما جمعته ، تقول : اضرب أيهم شئت زيدا أم عمرا ، فإذا قلت : اضرب أحدهم ، قلت : اضرب زيدا أو عمرا ، والمنقطعة لا تكون إلا بعد كلام تام ، لأنها بمعنى " بل " والألف ، كقول العرب : إنها الإبل أم شاء ، كأنه قال : بل هي شاء ، ومنه قوله تعالى : ( أم يقولون افتراه ) [ السجدة : 3 ] أي : بل يقولون ، قال الأخطل :
كذبتك عينك أم رأيت بواسط غلس الظلام من الرباب خيالا
المسألة الثانية : اختلفوا في المخاطب به على وجوه :
أحدها : أنهم المسلمون ، وهو قول الأصم والجبائي وأبي مسلم ، واستدلوا عليه بوجوه :
الأول : أنه قال في آخر الآية : ( ومن يتبدل الكفر بالإيمان ) وهذا الكلام لا يصح إلا في حق المؤمنين .
الثاني : أن قوله : ( أم تريدون ) يقتضي معطوفا عليه ، وهو قوله : ( لا تقولوا راعنا ) فكأنه قال : وقولوا : انظرنا واسمعوا ، فهل تفعلون ذلك كما أمرتم ، أم تريدون أن تسألوا رسولكم ؟ .
الثالث : أن المسلمين كانوا يسألون محمدا - صلى الله عليه وسلم - عن أمور لا خير لهم في البحث عنها ، ليعلموها ، كما سأل اليهود موسى عليه السلام ما لم يكن لهم فيه خير عن البحث عنه .
الرابع : سأل قوم من المسلمين أن يجعل لهم ذات أنواط كما كان للمشركين ذات أنواط ، وهي شجرة كانوا يعبدونها ، ويعلقون عليها المأكول والمشروب ، كما سألوا موسى أن يجعل لهم إلها كما لهم آلهة .
القول الثاني : أنه خطاب لأهل مكة ، وهو قول ابن عباس . قال : إن ومجاهد عبد الله بن أمية المخزومي أتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في رهط من قريش ، فقال : يا محمد والله ما أومن بك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا ، أو تكون لك جنة من نخيل وعنب ، أو يكون لك بيت من زخرف ، أو ترقى في السماء بأن تصعد ، ولن نؤمن لرقيك بعد ذلك حتى تنزل علينا كتابا من الله إلى [ ص: 213 ] عبد الله بن أمية أن محمدا رسول الله فاتبعوه .
وقال له بقية الرهط : فإن لم تستطع ذلك فائتنا بكتاب من عند الله جملة واحدة ، فيه الحلال والحرام والحدود والفرائض ، كما جاء موسى إلى قومه بالألواح من عند الله فيها كل ذلك ، فنؤمن بك عند ذلك . فأنزل الله تعالى : أم تريدون أن تسألوا رسولكم محمدا أن يأتيكم الآيات من عند الله كما سأل السبعون ، فقالوا : أرنا الله جهرة .
وعن : أن مجاهد قريشا سألت محمدا عليه السلام أن يجعل لهم الصفا ذهبا وفضة ، فقال : نعم ، هو لكم كالمائدة لبني إسرائيل ، فأبوا ورجعوا .
القول الثالث : المراد اليهود ، وهذا القول أصح ؛ لأن هذه السورة من أول قوله : ( يابني إسرائيل اذكروا نعمتي ) [ البقرة : 47 ] حكاية عنهم ، ومحاجة معهم ، ولأن الآية مدنية ، ولأنه جرى ذكر اليهود وما جرى ذكر غيرهم ، ولأن . المؤمن بالرسول لا يكاد يسأله ، فإذا سأله كان متبدلا كفرا بالإيمان
المسألة الثالثة : ليس في ظاهر قوله : ( أم تريدون أن تسألوا رسولكم كما سئل موسى من قبل ) أنهم أتوا بالسؤال فضلا عن كيفية السؤال ، بل المرجع فيه إلى الروايات التي ذكرناها في أنهم سألوا ، والله أعلم .
المسألة الرابعة : اعلم أن السؤال الذي ذكروه إن كان ذلك طلبا للمعجزات ، فمن أين أنه كفر ؟ ومعلوم أن طلب الدليل على الشيء لا يكون كفرا ، وإن كان ذلك طلبا لوجه الحكمة المفصلة في نسخ الأحكام ، فهذا أيضا لا يكون كفرا ؛ فإن الملائكة طلبوا الحكمة التفصيلية في خلقة البشر ، ولم يكن ذلك كفرا ، فلعل الأولى حمل الآية على أنهم طلبوا منه أن يجعل لهم إلها كما لهم آلهة ، وإن كانوا طلبوا المعجزات فإنهم يطلبونها على سبيل التعنت واللجاج ، فلهذا كفروا بسبب هذا السؤال .
المسألة الخامسة : ذكروا في اتصال هذه الآية بما قبلها وجوها :
أحدها : أنه تعالى لما حكم بجواز النسخ في الشرائع ، فلعلهم كانوا يطالبونه بتفاصيل ذلك الحكم فمنعهم الله تعالى عنها ، وبين أنهم ليس لهم أن يشتغلوا بهذه الأسئلة كما أنه ما كان لقوم موسى أن يذكروا أسئلتهم الفاسدة .
وثانيها : لما تقدم من الأوامر والنواهي ، قال لهم : إن لم تقبلوا ما أمرتكم به وتمردتم عن الطاعة ، كنتم كمن سأل موسى ما ليس له أن يسأله ؛ عن أبي مسلم .
وثالثها : لما أمر ونهى ، قال : أتفعلون ما أمرتم ، أم تفعلون كما فعل من قبلكم من قوم موسى ؟
المسألة السادسة : ( سواء السبيل ) وسطه ، قال تعالى : ( فاطلع فرآه في سواء الجحيم ) [ الصافات : 55 ] أي : وسط الجحيم ، والغرض التشبيه دون نفس الحقيقة ، ووجه التشبيه في ذلك أن من سلك طريقة الإيمان فهو جار على الاستقامة المؤدية إلى الفوز والظفر بالطلبة من الثواب والنعيم ، فالمبدل لذلك بالكفر عادل عن الاستقامة ، فقيل فيه : إنه ضل سواء السبيل .