( إن هذه تذكرة فمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلا وما تشاءون إلا أن يشاء الله )
واعلم أنه تعالى لما شرح أحوال السعداء وأحوال الأشقياء قال بعده : ( إن هذه تذكرة فمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلا وما تشاءون إلا أن يشاء الله ) والمعنى أن هذه السورة بما فيها من الترتيب العجيب والنسق البعيد والوعد والوعيد ، والترغيب والترهيب ، ، فمن شاء الخيرة لنفسه في الدنيا والآخرة اتخذ إلى ربه سبيلا ، واتخاذ السبيل إلى الله عبارة عن التقرب إليه ، واعلم أن هذه الآية من جملة الآيات التي تلاطمت فيها أمواج الجبر والقدر ، فالقدري يتمسك بقوله تعالى : ( تذكرة للمتأملين ، وتبصرة للمستبصرين فمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلا ) ويقول : إنه صريح مذهبي ، ونظيره : ( فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر ) [ الكهف : 29 ] والجبري يقول : متى ضمت هذه الآية إلى الآية التي بعدها خرج منه صريح مذهب الجبر ، وذلك لأن قوله : ( فمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلا ) يقتضي أن تكون مشيئة العبد متى كانت خالصة ، فإنها تكون مستلزمة للفعل ، وقوله بعد ذلك : ( وما تشاءون إلا أن يشاء الله ) يقتضي أن مستلزمة لمشيئة العبد ، ومستلزم المستلزم مستلزم ، فإذا مشيئة الله مستلزمة لفعل العبد ، وذلك هو الجبر ، وهكذا الاستدلال على الجبر بقوله : ( مشيئة الله تعالى فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر ) لأن هذه الآية أيضا تقتضي كون ، ثم التقرير ما تقدم . المشيئة مستلزمة للفعل
واعلم أن الاستدلال على هذا الوجه الذي لخصناه لا يتوجه عليه كلام القاضي ، إلا أنا نذكره وننبه على ما فيه من الضعف ، قال القاضي : المذكور في هذه الآية اتخاذ السبيل إلى الله ، ونحن نسلم أن الله قد شاءه ؛ لأنه تعالى قد أمر به ، فلا بد وأن يكون قد شاءه . وهذا لا يقتضي أن يقال : العبد لا يشاء إلا ما قد شاءه الله على الإطلاق ؛ إذ المراد بذلك الأمر المخصوص الذي قد ثبت أنه تعالى قد أراده وشاءه .
واعلم أن هذا الكلام الذي ذكره القاضي لا تعلق له بالاستدلال على الوجه الذي ذكرناه ، وأيضا فحاصل ما ذكره القاضي تخصيص هذا العام بالصورة التي مر ذكرها فيما قبل هذه الآية ، وذلك ضعيف ؛ لأن خصوص ما قبل الآية لا يقتضي تخصيص هذا العام به ؛ لاحتمال أن يكون الحكم في هذه الآية واردا بحيث يعم تلك الصورة وسائر الصور ، بقي في الآية سؤال يتعلق بالإعراب ، وهو أن يقال : ما محل " أن [ ص: 232 ] يشاء الله " ؟ وجوابه : النصب على الظرف ، وأصله : إلا وقت مشيئة الله ، وكذلك قراءة ابن مسعود : " إلا ما شاء الله " ؛ لأن " ما " مع الفعل كـ" أن " معه ، وقرئ أيضا : " يشاءون " بالياء .