( إن هؤلاء يحبون العاجلة ويذرون وراءهم يوما ثقيلا نحن خلقناهم وشددنا أسرهم وإذا شئنا بدلنا أمثالهم تبديلا )
واعلم أنه تعالى لما خاطب رسوله بالتعظيم والنهي والأمر عدل إلى شرح أحوال الكفار والمتمردين ، فقال تعالى : ( إن هؤلاء يحبون العاجلة ويذرون وراءهم يوما ثقيلا ) ، والمراد أن وترك الالتفات والإعراض عما ينفعهم في الآخرة ليس هو الشبهة ؛ حتى ينتفعوا بالدلائل المذكورة في أول هذه السورة ، بل الشهوة والمحبة لهذه اللذات العاجلة والراحات الدينية . وفي الآية سؤالان : الذي حمل هؤلاء الكفار على الكفر
السؤال الأول : ؟ ( الجواب ) من وجوه : لم قال : وراءهم ، ولم يقل : قدامهم
أحدها : لما لم يلتفتوا إليه وأعرضوا عنه ، فكأنهم جعلوه وراء ظهورهم .
وثانيها : المراد ويذرون وراءهم مصالح يوم ثقيل ، فأسقط المضاف .
وثالثها : أن " وراء " تستعمل بمعنى قدام ؛ كقوله : ( من ورائه جهنم ) [ إبراهيم : 16 ] ، ( وكان وراءهم ملك ) [ الكهف : 79 ] .
السؤال الثاني : ما السبب في ؟ ( الجواب ) استعير الثقل لشدته وهوله من الشيء الثقيل الذي يتعب حامله ، ونحوه ( وصف يوم القيامة بأنه يوم ثقيل ثقلت في السماوات والأرض ) [ الأعراف : 187 ] .
ثم إنه تعالى لما ذكر أن الداعي لهم إلى هذا الكفر حب العاجل ، قال : ( نحن خلقناهم وشددنا أسرهم وإذا شئنا بدلنا أمثالهم تبديلا )
والمراد أن ، أما من حيث الرغبة فلأنه هو الذي خلقهم وأعطاهم الأعضاء السليمة التي بها يمكن الانتفاع باللذات العاجلة ، وخلق جميع ما يمكن الانتفاع به ، فإذا أحبوا اللذات العاجلة ، وتلك اللذات لا تحصل إلا عند حصول المنتفع وحصول المنتفع به ، وهذان لا يحصلان إلا بتكوين الله وإيجاده ، فهذا مما يوجب عليهم الانقياد لله ولتكاليفه ، وترك التمرد والإعراض ، وأما من حيث الرهبة فلأنه قادر على أن يميتهم ، وعلى أن يسلب النعمة عنهم ، وعلى أن يلقيهم في كل محنة وبلية ، فلأجل من فوت هذه اللذات العاجلة يجب عليهم أن ينقادوا لله ، وأن يتركوا هذا التمرد . وحاصل الكلام : كأنه قيل لهم : هب أن حبكم لهذه اللذات العاجلة طريقة مستحسنة ، إلا أن ذلك يوجب عليكم الإيمان بالله والانقياد له ، فلو أنكم توسلتم به إلى الكفر بالله ، والإعراض عن حكمه ، لكنتم قد تمردتم ، وهذا ترتيب حسن في السؤال والجواب ، وطريقة لطيفة . وفي الآية مسائل : حبهم للعاجلة يوجب عليهم طاعة الله من حيث الرغبة ومن حيث الرهبة
المسألة الأولى : قال أهل اللغة : الأسر الربط والتوثيق ، ومنه أسر الرجل إذا وثق بالقد ، وفرس مأسور الخلق وفرس مأسور بالعقب ، والمعنى شددنا توصيل أعضائهم بعضا ببعض ، وتوثيق مفاصلهم بالأعصاب .
المسألة الثانية : ( وإذا شئنا بدلنا أمثالهم ) أي إذا شئنا أهلكناهم وأتينا بأشباههم فجعلناهم بدلا منهم ، وهو كقوله : ( على أن نبدل أمثالكم ) ، والغرض منه بيان الاستغناء التام عنهم ، كأنه قيل : لا حاجة بنا إلى [ ص: 231 ] أحد من المخلوقين ألبتة ، وبتقدير أن تثبت الحاجة فلا حاجة إلى هؤلاء الأقوام ؛ فإنا قادرون على إفنائهم ، وعلى إيجاد أمثالهم ، ونظيره قوله تعالى : ( إن يشأ يذهبكم أيها الناس ويأت بآخرين وكان الله على ذلك قديرا ) [ النساء : 133 ] ، وقال : ( إن يشأ يذهبكم ويأت بخلق جديد وما ذلك على الله بعزيز ) [ إبراهيم : 20 ] ثم قيل : " بدلنا أمثالهم " أي في الخلقة ، وإن كانوا أضدادهم في العمل ، وقيل : أمثالهم في الكفر .
المسألة الثالثة : قال صاحب الكشاف في قوله : ( وإذا شئنا ) إن حقه أن يجيء بـ" أن " لا بـ" إذا " كقوله : ( وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم ) [ محمد : 38 ] ، ( إن يشأ يذهبكم ) ، واعلم أن هذا الكلام كأنه طعن في لفظ القرآن ، وهو ضعيف ؛ لأن كل واحد من " إن " و " إذا " حرف للشرط ، إلا أن ، فلا يقال : إن طلعت الشمس أكرمتك ، أما حرف " إذا " فإنه يستعمل فيما كان معلوم الوقوع ، تقول : آتيك إذا طلعت الشمس ، فههنا لما كان الله تعالى عالما بأنه سيجيء وقت يبدل الله فيه أولئك الكفرة بأمثالهم في الخلقة وأضدادهم في الطاعة ، لا جرم حسن استعمال حرف " إذا " . حرف " إن " لا يستعمل فيما يكون معلوم الوقوع