[ ص: 8 ] [ ص: 9 ] مقدمة المؤلف
الشيخ محمد جمال الدين القاسمي
بسم الله الرحمن الرحيم
نحمدك يا ذا الجلال والإكرام على ما أكملت لنا من دين الإسلام ، ونصلي ونسلم على نبي الهدى والرحمة ، المبعوث بالكتاب والحكمة ، خاتم النبيين وإمام المرشدين ، سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وأتباعه أجمعين .
أما بعد : فإن والتصدي لإرشادهم في الدروس العامة من الأمور المهمة المنوطة بخاصة الأمة ، إذ هم أمناء الشرع ونور سراجه ، ومصابيح علومه وحفاظ سياجه . وكان السلف يملون مما وقر في صدورهم ما يرونه أمس بحالهم وزمنهم ومكانهم ، ولما امتد الفتوح في الإسلام ابتدئ بجمع الهدي النبوي للأنام ، ثم اتسع العمران وعظمت الحضارة ، فأخذ ينمو التفريع والتخريج والانبساط في الفنون على نسبتها في الغزاة ، واستبحرت في فنون العلم الأسفار ، ودبت لمقتطفه مباحثه الكبار ، وصار المعول في بثه عليها ، والملجأ في تعرف حقائقه عليها ، وتنوعت في كل فن مصنفاته ، وزخرت من كل بحث مؤلفاته ، حتى حار طالبه في انتقاء الأحسن ، واستوقف كثرتها نظره في تخير الأتقن ، وأصبح التبصر في أجودها عنوان الذكاء ، والوقوف على أنفعها آية النباهة والارتقاء . ولما كانت عظة العوام بإيقافهم على جواهر دين الإسلام ، وإعلامهم محاسن الدين وواجباته ، ونوافله ومحظوراته ، وما يأمر به من الأخلاق الكريمة ، ويزجر عنه من المساوئ الذميمة ، ليرتقوا إلى ما فيه صلاحهم ونجاحهم ، فيفوزوا بما في الاعتصام به سعادتهم وفلاحهم من أوجب الواجبات وآكد المفروضات ، لما أخذ الله على العلماء من الدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، فيقف المدعوون على شرائعه تعالى فيما أمر وزجر ، ووعد وأوعد وبشر وأنذر ، موعظة العامة ، فينتخب من المدونات أنفعها ، وينتقي من لباب لبابها أرفعها ، إذ كثير مما اعتيد في المحافل تدريسه ، لم يكن على بناء إفادة العامة تأسيسه ، ولا برهان بعد عيان . فلزم الداعي إلى الله تعالى أن يجتهد بفطنته لما يعينه في دعوته
[ ص: 10 ] موضوع ذكرى العامة موضوع جليل ، لا يصلح له إلا كل حكيم نبيل . أتدري من المذكر أو الواعظ أو المرشد ؟ هو إنسان حافظ لحدود الله ، قائم على إرشاد العقول ، وتهذيب النفوس ، وتثقيف الأذهان ، وتنوير المدارك وتصحيح المعتقدات وإبانة سر العبادات ، وإماطة ما غشي الأفهام القاصرة من غياهب الجهالة وتراث الضلالة .
المذكر وارث محمدي ، واقف على مقاصد التشريع وحكمته ، عالم مواضع الخلاف والوفاق ، سائس لسامعيه بما يلائمهم من الأحكام . لا يصعد بهم قمم الشدة والتعسير ، ولا يهبط بهم إلى حضيض الترخيص غلوا في التيسير ، بل يسير بهم على جادة الحق وسواء الطريق .
المذكر ينشر العلم النافع بين الناس ، ويحثهم على العمل به ، ويخاطبهم على قدر عقولهم ، ويتنزل لإرشادهم إلى لغتهم ، يعاشر بالنصح ، ويخالطهم لتأليف قلوبهم .
المذكر هو العامل الأكبر في إخراج الناس من ظلمات الجهالة إلى نور العلم ، وتحريرهم من رق الخرافات والوهم . وهو كالسراج فإذا لم ينتفع بضوئه فلا فائدة في وجوده ، وحق ما قيل " لا يكون العالم عالما حتى يظهر أثر علمه في قومه " إذ ليس مسؤولا عن نفسه وحدها ، بل عنها وعن عشيرته وأمته ، فمن الواجب عليه أن يعلم ويعظ ويبلغ كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وعلى الجملة فالمذكر لا بد أن يكون كاملا في تعليمه ، كاملا في إرشاده ، كاملا في أخلاقه .
وغير خاف أن مذكر العامة على قوة ملكته وسعة مداركه ، يضطر إلى مادة تعينه على ذكراه ، وتمد ذاكرته إذا أم مبتغاه . ولكن أين تلك المادة الممدة ؟ فإني لم أر بين المصنفات على كثرتها ما ألف لذكرى العامة مستوفيا للشروط التامة ، بأن يفقهوا معناه ، ويدركوا منطوقه ومغزاه ، ويكون وافيا بحاجياتهم آتيا على جميع كمالياتهم ، مجردا عن دقائق المسائل قريب الأخذ للمتناول ; فيستعين به المذكر ، ويهتدي به المستبصر . ولم أزل أترقب من نفحات التوفيق ما يهدئ البال ، إلى أن رأيت بعد ما لونت في عام التدريس كل كتاب نفيس الأعوام الطوال أن من أنفع ما يقتبس منه عظة المؤمنين مواضيع تنتخب من ( إحياء علوم الدين ) للعلامة الإمام حجة الإسلام أبي حامد محمد بن محمد بن محمد الغزالي الطوسي - عليه الرحمة والرضوان - . ثم اتفق أن تذاكرت مع إمام حكيم واستطلعت رأيه الصائب في هذا المرام ، فقال متأسفا : " إن هذا الموضوع لم يصنف فيه إلا أن أحسن ما لدينا لذلك هو الإحياء بعد تجريده " فعددت ذلك من بدائع الموافقات . وأتذكر الآن أن أحد الأعلام في دمشق أشار على من استشاره من المدرسين بالإحياء ، فأخذ المدرس في قراءته بالحرف ، عملا بالأمر [ ص: 11 ] الصرف ، ثم شكا له ضيق صدره من مباحث لا تفقهها العوام ، ولا ينتفع بها إلا خاصة الأنام ، فأجابه بأن أمره كان لفصول تنتخب منه ، وقد تحققت بذلك كمال حذقه - رحمه الله ورضي عنه - ، لذلك عزمت سنة ( 1323 ) على اختصاره في جزأين موجزين على الشريطة السالفة ، أساير فيهما ترتيب أصله بلا مخالفة ، والمأمول أن تحظى بالغاية المتوخاة والضالة المنشودة ، وبالله المستعان ، وعليه التكلان .