فصل في حكمه صلى الله عليه وسلم في ثبوت الخيار للمعتقة تحت العبد
ثبت في " الصحيحين " و " السنن " : كاتبت أهلها ، وجاءت تسأل النبي صلى الله عليه وسلم في كتابتها فقالت بريرة رضي الله عنها : إن أحب أهلك أن أعدها لهم ويكون ولاؤك لي فعلت ، فذكرت ذلك لأهلها فأبوا إلا أن يكون الولاء لهم ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم عائشة رضي الله عنها : ( اشتريها واشترطي لهم الولاء فإنما الولاء لمن أعتق ) ، ثم خطب الناس فقال : " ما بال أقوام يشترطون شروطا ليست في كتاب الله ، من اشترط شرطا ليس في كتاب الله فهو باطل ، وإن كان مائة شرط ، قضاء الله أحق ، وشرط الله أوثق ، وإنما الولاء لمن أعتق " ثم خيرها رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أن تبقى على نكاح زوجها وبين أن تفسخه فاختارت نفسها ، فقال لها : " إنه زوجك وأبو ولدك " فقالت يا رسول الله صلى الله عليه وسلم : تأمرني بذلك ؟ قال : " لا إنما أنا شافع ، قالت : فلا حاجة لي فيه وقال لها إذ خيرها : ( إن قربك فلا خيار لك " وأمرها أن تعتد وتصدق عليها بلحم فأكل منه النبي صلى الله عليه وسلم وقال " هو عليها صدقة ولنا هدية لعائشة ) . أن
[ ص: 148 ] وكان في قصة من الفقه جواز مكاتبة المرأة ، وجواز بريرة وإن لم يعجزه سيده ، وهذا مذهب بيع المكاتب أحمد المشهور عنه ، وعليه أكثر نصوصه . وقال في رواية أبي طالب : لا يطأ مكاتبته ، ألا ترى أنه لا يقدر أن يبيعها . وبهذا قال أبو حنيفة ومالك . والنبي صلى الله عليه وسلم أقر والشافعي رضي الله عنها على شرائها وأهلها على بيعها ، ولم يسأل : أعجزت أم لا ، ومجيئها تستعين في كتابتها لا يستلزم عجزها ، وليس في بيع المكاتب محذور ، فإن بيعه لا يبطل كتابته ، فإنه يبقى عند المشتري كما كان عند البائع ، إن أدى إليه عتق ، وإن عجز عن الأداء فله أن يعيده إلى الرق كما كان عند بائعه ، فلو لم تأت السنة بجواز بيعه ، لكان القياس يقتضيه . عائشة
وقد ادعى غير واحد الإجماع القديم على جواز بيع المكاتب . قالوا : لأن قصة وردت بنقل الكافة ، ولم يبق بريرة بالمدينة من لم يعرف ذلك ؛ لأنها صفقة. جرت بين أم المؤمنين ، وبين بعض الصحابة رضي الله عنهم ، وهم موالي ، ثم خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس في أمر بيعها خطبة في غير وقت الخطبة ، ولا يكون شيء أشهر من هذا ، ثم كان من مشي زوجها خلفها باكيا في أزقة بريرة المدينة ما زاد الأمر شهرة عند النساء والصبيان ، قالوا : فظهر يقينا أنه إجماع من الصحابة ، إذ لا يظن بصاحب أنه يخالف من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل هذا الأمر الظاهر المستفيض . قالوا : ولا يمكن أن توجدوا عن أحد من الصحابة رضي الله عنهم المنع من بيع المكاتب إلا رواية شاذة عن لا يعرف لها إسناد . ابن عباس
واعتذر من منع بيعه بعذرين .
أحدهما : أن كانت قد عجزت وهذا [ ص: 149 ] عذر أصحاب بريرة . الشافعي
والثاني : أن البيع ورد على مال الكتابة لا على رقبتها وهذا عذر أصحاب مالك .
وهذان العذران أحوج إلى أن يعتذر عنهما من الحديث ، ولا يصح واحد منهما ، أما الأول : فلا ريب أن هذه القصة كانت بالمدينة ، وقد شهدها العباس وابنه عبد الله ، وكانت الكتابة تسع سنين في كل سنة أوقية ، ولم تكن بعد أدت شيئا ، ولا خلاف أن العباس وابنه إنما سكنا المدينة بعد فتح مكة ، ولم يعش النبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك إلا عامين وبعض الثالث ، فأين العجز وحلول النجوم ؟! .
وأيضا ، فإن لم تقل : عجزت ، ولا قالت لها بريرة : أعجزت ؟ ولا اعترف أهلها بعجزها ، ولا حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم بعجزها ، ولا وصفها به ، ولا أخبر عنها البتة ، فمن أين لكم هذا العجز الذي تعجزون عن إثباته ؟! . عائشة
وأيضا فإنها إنما قالت : كاتبت أهلي على تسع أواق في كل سنة أوقية ، وإني أحب أن تعينيني ، ولم تقل : لم أؤد لهم شيئا ، ولا مضت علي نجوم عدة عجزت عن الأداء فيها ، ولا قالت عجزني أهلي . لعائشة
وأيضا فإنهم لو عجزوها لعادت في الرق ولم تكن حينئذ لتسعى في كتابتها وتستعين على أمر قد بطل . بعائشة
فإن قيل الذي يدل على عجزها قول : إن أحب أهلك أن أشتريك وأعتقك ، ويكون ولاؤك لي فعلت . وقول النبي صلى الله عليه وسلم عائشة رضي الله عنها : " لعائشة " وهذا يدل على إنشاء عتق من اشتريها فأعتقيها رضي الله عنها ، وعتق المكاتب بالأداء لا بإنشاء من السيد . عائشة
قيل هذا هو الذي أوجب لهم القول ببطلان الكتابة . قالوا : ومن المعلوم أنها لا تبطل إلا بعجز المكاتب أو تعجيزه نفسه وحينئذ فيعود في الرق ، فإنما ورد البيع على رقيق لا على مكاتب .
وجواب هذا : أن ترتيب العتق على الشراء لا يدل على إنشائه ، فإنه ترتيب للمسبب على سببه ، ولا سيما فإن لما أرادت أن تعجل كتابتها جملة [ ص: 150 ] واحدة كان هذا سببا في إعتاقها ، وقد قلتم أنتم إن قول النبي صلى الله عليه وسلم : ( عائشة ) . لا يجزي ولد والده إلا أن يجده مملوكا فيشتريه فيعتقه
إن هذا من ترتيب المسبب على سببه ، وأنه بنفس الشراء يعتق عليه لا يحتاج إلى إنشاء عتق .
وأما العذر الثاني : فأمره أظهر وسياق القصة يبطله ، فإن أم المؤمنين اشترتها فأعتقتها ، وكان ولاؤها لها ، وهذا مما لا ريب فيه ولم تشتر المال والمال كان تسع أواق منجمة فعدتها لهم جملة واحدة ، ولم تتعرض للمال الذي في ذمتها ولا كان غرضها بوجه ما ، ولا كان غرض في شراء الدراهم المؤجلة بعددها حالة . لعائشة
وفي القصة جواز المعاملة بالنقود عددا إذا لم يختلف مقدارها ، وفيها أنه لا يجوز لأحد من المتعاقدين أن يشترط على الآخر شرطا يخالف حكم الله ورسوله ، وهذا معنى قوله " ليس في كتاب الله " ، أي : ليس في حكم الله جوازه ، وليس المراد أنه ليس في القرآن ذكره وإباحته ، ويدل عليه قوله ( ) . كتاب الله أحق وشرط الله أوثق
وقد استدل به من صحح العقد الذي شرط فيه شرط فاسد ، ولم يبطل العقد به ، وهذا فيه نزاع وتفصيل يظهر الصواب منه في تبيين معنى الحديث ، فإنه قد أشكل على الناس قوله " اشترطي لهم الولاء فإن الولاء لمن أعتق " ، فأذن لها في هذا الاشتراط ، وأخبر أنه لا يفيد . طعن في هذه اللفظة وقال : إن والشافعي انفرد بها وخالفه غيره فردها هشام بن عروة ولم يثبتها ، ولكن أصحاب " الصحيحين " وغيرهم أخرجوها ولم يطعنوا فيها ، ولم يعللها أحد سوى الشافعي فيما نعلم . الشافعي
[ ص: 151 ] ثم اختلفوا في معناها فقالت طائفة: اللام ليست على بابها ، بل هي بمعنى " على " كقوله ( إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم وإن أسأتم فلها ) [ الإسراء : 7 ] أي فعليها ، كما قال تعالى : ( من عمل صالحا فلنفسه ومن أساء فعليها ) [ فصلت 46 ]
وردت طائفة هذا الاعتذار بخلافه لسياق القصة ولموضوع الحرف ، وليس نظير الآية ، فإنها قد فرقت بين ما للنفس وبين ما عليها بخلاف قوله : ( اشترطي لهم ) .
وقالت طائفة بل اللام على بابها ، ولكن في الكلام محذوف تقديره : اشترطي لهم أو لا تشترطي ، فإن الاشتراط لا يفيد شيئا لمخالفته لكتاب الله .
ورد غيرهم هذا الاعتذار لاستلزامه إضمار ما لا دليل عليه ، والعلم به من نوع علم الغيب .
وقالت طائفة أخرى : بل هذا أمر تهديد لا إباحة كقوله تعالى : ( اعملوا ما شئتم ) [ فصلت : 40 ] وهذا في البطلان من جنس ما قبله ، وأظهر فسادا ، فما وما للتهديد هنا ؟ وأين في السياق ما يقتضي التهديد لها ؟ نعم هم أحق بالتهديد لا أم المؤمنين . لعائشة
وقالت طائفة : بل هو أمر إباحة وإذن ، وأنه يجوز اشتراط مثل هذا ، ويكون ولاء المكاتب للبائع ، قاله بعض الشافعية وهذا أفسد من جميع ما تقدم وصريح الحديث يقتضي بطلانه ورده .
وقالت طائفة : إنما أذن لها في الاشتراط ليكون وسيلة إلى ظهور بطلان هذا الشرط وعلم الخاص والعام به ، وتقرر حكمه صلى الله عليه وسلم وكان القوم قد علموا حكمه صلى الله عليه وسلم في ذلك فلم يقنعوا دون أن يكون الولاء لهم ، فعاقبهم بأن أذن في الاشتراط ، ثم خطب الناس فأذن فيهم ببطلان هذا الشرط ، وتضمن حكما من [ ص: 152 ] أحكام الشريعة وهو أن الشرط الباطل إذا شرط في العقد لم يجز الوفاء به ، ولولا الإذن في الاشتراط لما علم ذلك ، فإن الحديث تضمن فساد هذا الحكم ، وهو كون الولاء لغير المعتق . لعائشة
وأما بطلانه إذا شرط ، فإنما استفيد من تصريح النبي صلى الله عليه وسلم ببطلانه بعد اشتراطه ، ولعل القوم اعتقدوا أن اشتراطه يفيد الوفاء به ، وإن كان خلاف مقتضى العقد المطلق فأبطله النبي صلى الله عليه وسلم ، وإن شرط كما أبطله بدون الشرط .
فإن قيل : فإذا فات مقصود المشترط ببطلان الشرط ، فإنه إما أن يسلط على الفسخ ، أو يعطى من الأرش بقدر ما فات من غرضه ، والنبي صلى الله عليه وسلم لم يقض بواحد من الأمرين .
قيل : هذا إنما يثبت إذا كان المشترط جاهلا بفساد الشرط . فأما إذا علم بطلانه ومخالفته لحكم الله كان عاصيا آثما بإقدامه على اشتراطه ، فلا فسخ له ولا أرش ، وهذا أظهر الأمرين في موالي والله أعلم . بريرة