قال هؤلاء : وكاد من أفعال المقاربة لها حكم سائر الأفعال في النفي والإثبات ، فإذا قيل : كاد يفعل ، فهو إثبات لمقاربة الفعل ، فإذا قيل : لم يكد يفعل فهو نفي لمقاربة الفعل .
وقالت طائفة أخرى ، بل هذا دال على أنه إنما يراها بعد جهد شديد وفي ذلك إثبات رؤيتها بعد أعظم العسر ; لأجل تلك الظلمات ، قالوا : لأن كاد لها شأن ليس لغيرها من الأفعال فإنها إذا [ ص: 60 ] أثبتت نفت وإذا نفت أثبتت . فإذا قلت : ما كدت أصل إليك فمعناه : وصلت إليك بعد الجهد والشدة فهذا إثبات للوصول ، وإذا قلت : كاد زيد يقوم فهي نفي لقيامه ، كما قال تعالى : ( وأنه لما قام عبد الله يدعوه كادوا يكونون عليه لبدا ) ومنه قوله تعالى : ( وإن يكاد الذين كفروا ليزلقونك بأبصارهم . . ) الآية وأنشد بعضهم في ذلك ملغزا :
أنحوي هذا العصر ما هي لفظة جرت في لساني جرهم وثمود إذا استعملت في صورة النفي أثبتت
وإن أثبتت قامت مقام جحود
فهذه أربعة طرق للنحاة في هذه اللفظة ، والصحيح أنها فعل يقتضي المقاربة ولها حكم سائر الأفعال ، ونفي الخبر لم يستفد من لفظها ووضعها فإنها لم توضع لنفيه ، وإنما استفيد من لوازم معناها ، فإنها إذا اقتضت مقاربة الفعل لم يكن واقعا فيكون منفيا باللزوم ، وأما إذا استعملت منفية فإن كانت في كلام واحد فهي لنفي المقاربة كما إذا قلت : لا يكاد البطال يفلح ولا يكاد البخيل يسود ولا يكاد الجبان يفرح ونحو ذلك ، وإن كانت في كلامين اقتضت وقوع الفعل بعد أن لم يكن مقاربا كما قال ابن مالك ، فهذا التحقيق في أمرها والمقصود أن قوله [ ص: 62 ] تعالى ( لم يكد يراها ) إما أن يدل على أنه لا يقارب رؤيتها لشدة الظلمة وهو الأظهر ، فإذا كان لا يقارب رؤيتها فكيف يراها .
قال : ذو الرمة
إذا غير النائي المحبين لم يكد رسيس الهوى من حب مية يبرح
وهذا التشبيه هو تشبيه لأعمالهم الباطلة بالمطابقة والتصريح ولعلومهم وعقائدهم الفاسدة باللزوم وكل واحد من السراب والظلمات مثل لمجموع علومهم وأعمالهم فهي سراب لا حاصل لها وظلمات لا نور فيها .
[ ص: 63 ] وهذا عكس مثل أعمال المؤمن وعلومه التي تلقاها من مشكاة النبوة فإنها مثل الغيث الذي به حياة البلاد والعباد ومثل النور الذي به انتفاع أهل الدنيا والآخرة .