( فصل ) : ومن ذلك وهو قوله في الفصل التاسع من السفر الأول من التوراة : أن هاجر لما فارقت سارة وخاطبها الملك فقال : يا هاجر ، من أين أقبلت ؟ وإلى أين تريدين ؟ فلما شرحت له الحال ، قال : ارجعي فإني سأكثر ذريتك ، وزرعك حتى لا يحصون ، وها أنت تحبلين وتلدين ابنا اسمه إسماعيل ، لأن الله تعالى قد سمع ذلك وخضوعك ، ولدك يكون وحشي الناس ، يده فوق يد الجميع ، ويد الكل به ، ويكون مسكنه على تخوم جميع إخوانه .
[ ص: 350 ] قال المستخرجون لهذه : معلوم أن يد البشارة بني إسماعيل قبل مبعث محمد صلى الله عليه وسلم لم تكن فوق أيدي بني إسحاق ، بل في أيدي بني إسحاق النبوة والكتاب ، وقد دخلوا مصر زمن يوسف مع يعقوب ، فلم يكن لبني إسماعيل فوقهم يد ، ثم خرجوا منها لما بعث موسى ، وكان مع موسى ( أعز أهل ) ، لم يكن لأحد عليهم يد ، ولذلك كانوا مع يوشع إلى زمن داود ، وملك سليمان الملك الذي لم يؤت أحد مثله ، فلم تكن يد بني إسماعيل ، ثم سلط الله عليهم بخت نصر ففعل بهم الأفاعيل ، ولم تكن يد بني إسماعيل عليهم ، ثم بعث الله المسيح فكفروا به ، وكذبوه ، فدمر الله عليهم تكذيبهم إياه ، وزال ملكهم ولم يقم لهم بعده قائمة ، وقطعهم الله في الأرض أمما . وكانوا تحت حكم الروم والفرس وقهرهم ، ولم يكن يد إسماعيل عليهم في هذا الحالة ، ولا كانت فوق الجميع إلى أن بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم رسولا برسالته ، وأكرمه الله بنبوته فصارت بمبعثه يد بني إسماعيل فوق الجميع ، فلم يبق في الأرض سلطان أعز من سلطانهم ، بحيث قهروا سلطان فارس والروم والترك والديلم ، وقهروا اليهود والنصارى والمجوس والصابئة وعباد الأصنام ، وظهر بذلك تأويل قوله في التوراة : " وتكون يده فوق الجميع ، ويد الكل به " وهذا أمر مستمر إلى آخر الدهر .
قالت اليهود : نحن لا ننكر هذا ، ولكن هذه بشارة بملكه وظهوره وقهره ، لا برسالته ونبوته .
قال المسلمون : الملك ملكان ، ملك ليس معه نبوة بل ملك جبار متسلط ، [ ص: 351 ] وملك نفسه نبوة ، والبشارة لم تقع بالملك الأول ، ولا سيما إذا ادعى صاحبه النبوة والرسالة ، وهو كاذب مفتر على الله فهو من شر الخلق وأفجرهم وأكفرهم ، فهذا لا تقع البشارة بملكه ، وإنما يقع التحذير من فتنته ، كما وقع التحذير من فتنة الدجال ، بل هذا شر من سنحاريب وبخت نصر ، والملوك الظالمة الفجرة الذين كذبوا على الله ، فالأخبار لا تكون بشارة ، ولا يفرح به هاجر وإبراهيم ، ولا بشر ممن أخبر بذلك ، ولا يكون ذلك إنابة لها من خضوعها وذلها ، فإن الله تعالى قد سمع ذلك ، ويعظم هذا المولود ويجعله لأمة عظيمة ، وهذا عند الجاحدين بمنزلة أن يقال : إنك ستلدين جبارا ظالما طاغيا يقهر الناس بالباطل ، ويقتل أولياء الله ، ويسبي حريمهم ، ويأخذ أموالهم بالباطل ، ويبدل أديان الأنبياء ، ويكذب على الله ، ونحو ذلك .
فمن حمل هذه البشارة على هذا فهو من أعظم الخلق بهتانا وفرية على الله ، وليس هذا بمستنكر لأمة الغضب ، وقتلة الأنبياء ، والقوم البهت .