فصل
وأضعف هؤلاء احتجاجا قوم استندوا في ، وأقبلوا وأعرضوا بسببها : أخذ الأعمال إلى المنامات
فيقولون : رأينا فلانا الرجل الصالح ، فقال لنا : اتركوا كذا ، واعملوا كذا .
ويتفق هذا كثيرا [ لـ ] المترسمين برسم التصوف ، وربما قال بعضهم : رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في النوم ، فقال لي كذا ، وأمرني بكذا ، فيعمل بها ويترك بها ؛ معرضا عن الحدود الموضوعة في الشريعة .
[ ص: 332 ] وهو خطأ ، لأن الرؤيا من غير الأنبياء لا يحكم بها شرعا على حال ؛ إلا أن تعرض على ما في أيدينا من الأحكام الشرعية ، فإن سوغتها عمل بمقتضاها ، وإلا ؛ وجب تركها والإعراض عنها ، وإنما فائدتها البشارة أو النذارة خاصة ، وأما استفادة الأحكام ؛ فلا .
كما يحكى عن الكتاني رحمه الله ؛ قال : " رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في المنام ، فقلت : ادع الله أن لا يميت قلبي ، فقال : قل كل يوم أربعين مرة : يا حي ! يا قيوم ! لا إله إلا أنت " .
فهذا كلام حسن لا إشكال في صحته ، وكون الذكر يحيي القلب صحيح شرعا ، وفائدة الرؤيا التنبيه على الخير ، وهو من ناحية البشارة ، وإنما يبقى الكلام في التحديد بالأربعين ، وإذا لم يوجد على اللزوم استقام .
وعن ؛ قال : رأيت ربي في المنام ، فقلت : كيف الطريق إليك ؟ فقال : اترك نفسك وتعالى " . أبي يزيد البسطامي
وشأن هذا الكلام من الشرع موجود ، فالعمل بمقتضاه صحيح ؛ لأنه كالتنبيه لموضع الدليل ؛ لأن ترك النفس معناه ترك هواها بإطلاق ، والوقوف على قدم العبودية ، والآيات تدل على هذا المعنى ؛ كقوله تعالى : وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى فإن الجنة هي المأوى ، . . . . وما أشبه ذلك .
فلو رأى في النوم قائلا يقول : إن فلانا سرق فاقطعه ، أو عالم [ ص: 333 ] فاسأله ، أو اعمل بما يقول لك ، أو فلان زنى فحده . . . وما أشبه ذلك ؛ لم يصح له العمل ، حتى يقوم له الشاهد في اليقظة ، وإلا ؛ كان عاملا بغير شريعة ، إذ ليس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم وحي .
ولا يقال : إن فلا ينبغي أن تهمل ، وأيضا ؛ إن المخبر في المنام قد يكون النبي صلى الله عليه وسلم ، وهو قد قال : الرؤيا من أجزاء النبوة ، وإذا كان . . . فإخباره في النوم كإخباره في اليقظة . من رآني في النوم ؛ فقد رآني حقا ؛ فإن الشيطان لا يتمثل بي
لأنا نقول : إن كانت الرؤيا من أجزاء النبوة ؛ فليست إلينا من كمال الوحي ، بل جزء من أجزائه ، والجزء لا يقوم مقام الكل في جميع الوجوه ، بل إنما يقوم مقامه في بعض الوجوه ، وقد صرفت إلى جهة البشارة والنذارة ، وفيها كاف .
وأيضا ؛ فإن الرؤيا التي هي جزء من ( أجزاء ) النبوة ؛ من شرطها أن تكون صالحة من الرجل الصالح ، وحصول الشروط مما ينظر فيه ، فقد تتوفر وقد لا تتوفر .
وأيضا ؛ فهي منقسمة إلى الحلم ـ وهو من الشيطان ـ ، وإلى حديث النفس ، وقد تكون سبب هيجان بعض أخلاط ، فمتى تتعين الصالحة حتى يحكم بها ونترك غير الصالحة ؟ ! .
ويلزم أيضا على ذلك أن يكون تجديد وحي بحكم بعد النبي صلى الله عليه وسلم ، وهو منهي عنه بالإجماع .
[ ص: 334 ] " يحكى أن دخل على شريك بن عبد الله القاضي المهدي ، فلما رآه ؛ قال : علي بالسيف والنطع ، قال : ولم يا أمير المؤمنين ؟ قال : رأيت في منامي كأنك تطأ بساطي وأنت معرض عني ، فقصصت رؤياي على من عبرها ، فقال لي : يظهر لك طاعة ويضمر معصية . فقال له شريك : والله ما رؤياك برؤيا إبراهيم الخليل عليه السلام ، ولا أن معبرك بيوسف الصديق عليه السلام ، فبالأحلام الكاذبة تضرب أعناق المؤمنين ؟ فاستحيا المهدي ، وقال : اخرج عني ، ثم صرفه وأبعده .
وحكى عن بعض الأئمة : " أنه أفتى بوجوب قتل رجل يقول بخلق القرآن ، فروجع فيه فاستدل بأن رجلا رأى في منامه إبليس قد اجتاز بباب المدينة ولم يدخلها ؟ فقيل : هل دخلتها ؟ فقال : أغناني عن دخولها رجل يقول بخلق القرآن ، فقام ذلك الرجل ، فقال : لو أفتى إبليس بوجوب قتلي في اليقظة ؛ هل تقلدونه في فتواه ؟ فقالوا : لا ! فقال : قوله في المنام لا يزيد على قوله في اليقظة " . الغزالي
وأما الرؤيا التي يخبر فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم الرائي بالحكم ؛ فلا بد من النظر فيها أيضا ؛ لأنه إذا أخبر بحكم موافق لشريعته ؛ فالحكم بما استقر ، وإن أخبر بمخالف ؛ فمحال ؛ لأنه عليه السلام لا ينسخ بعد موته شريعته المستقرة في حياته ؛ لأن الدين لا يتوقف استقراره بعد موته على حصول المرائي النومية ؛ لأن ذلك باطل بالإجماع ، فمن رأى شيئا من ذلك فلا عمل عليه ، وعند ذلك نقول : إن رؤياه غير صحيحة ، إذ لو رآه حقا ؛ لم يخبره بما يخالف الشرع .
لكن يبقى النظر في من رآني في النوم فقد [ ص: 335 ] رآني وفيه تأويلان : معنى قوله صلى الله عليه وسلم :
أحدهما : ما ذكره ابن رشد ، إذ سئل عن حاكم شهد عنده عدلان مشهوران بالعدالة في قضية ، فلما نام الحاكم ؛ ذكر أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال له : تحكم بهذه الشهادة ؟ ! فإنها باطلة ؟ .
فأجاب بأنه لا يحل له أن يترك العمل بتلك الشهادة ؛ لأن ذلك إبطال لأحكام الشريعة بالرؤيا ، وذلك باطل لا يصح أن يعتقد ، إذ لا يعلم الغيب من ناحيتها إلا الأنبياء الذين رؤياهم وحي ، ومن سواهم ؛ إنما رؤياهم جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة .
ثم قال : وليس معنى قوله : ، أن كل من رأى في منامه أنه رآه فقد رآه حقيقة ، بدليل أن الرائي قد يراه مرات على صور مختلفة ، ويراه الرائي على صفة ، وغيره على صفة أخرى . ولا يجوز أن تختلف صور النبي صلى الله عليه وسلم ولا صفاته ، وإنما معنى الحديث : من رآني على صورتي التي خلقت عليها . فقد رآني ، إذ لا يتمثل الشيطان بي ، إذ لم يقل : من رأى أنه رآني فقد رآني ؛ وإنما قال : من رآني فقد رآني حقا ، وأنى لهذا الرائي الذي رأى أنه رآه على صورة أنه رآه عليها ؟ ، وإن ظن أنه رآه ، ما لم يعلم أن تلك الصورة صورته بعينها ؟ ! ، وهذا ما لا طريق لأحد إلى معرفته . من رآني فقد رآني
فهذا ما نقل عن ابن رشد ، وحاصله يرجع إلى أن المرئي قد يكون غير النبي صلى الله عليه وسلم ، وإن اعتقد الرائي أنه هو .
الثاني : يقوله علماء التعبير : إن الشيطان قد يأتي النائم في صورة [ ص: 336 ] ما من معارف الرائي وغيرهم ، فيشير له إلى رجل آخر : هذا فلان النبي ، وهذا الملك الفلاني ، أو من أشبه هؤلاء ممن لا يتمثل الشيطان به ، فيوقف اللبس على الرائي بذلك ، وله علامة عندهم ، وإذا كان كذلك ؛ أمكن أن يكلمه المشار إليه بالأمر والنهي غير الموافقين للشرع ، فيظن الرائي أنه من قبل النبي صلى الله عليه وسلم ، ولا يكون كذلك ، فلا يوثق بما يقول له أو يأمر أو ينهى .
وما أحرى هذا الضرب أن يكون الأمر أو النهي فيه مخالفا لكمال الأول ، [ وهو لو كان من عند النبي صلى الله عليه وسلم ] حقيقا بأن يكون فيه موافقا ، وعند ذلك لا يبقى في المسألة إشكال .
نعم ؛ لا يحكم بمجرد الرؤيا حتى يعرضها على العلم ؛ لإمكان اختلاط أحد القسمين بالآخر وعلى الجملة ، فلا يستدل ( بالرؤيا ) في الأحكام إلا ضعيف المنة .
نعم ؛ يأتي المرئي تأنيسا وبشارة ونذارة خاصة ، بحيث لا يقطعون بمقتضاها حكما ، ولا يبنون عليها أصلا ، وهو الاعتدال في أخذها ، حسبما فهم من الشرع فيها ، والله أعلم .