فصل
إذا ثبت هذا ؛ رجعنا منه إلى معنى آخر ، فنقول :
إذا تبين أن للراسخين طريقا يسلكونها في اتباع الحق ، وأن الزائغين على غير طريقهم ، فاحتجنا إلى بيان الطريق التي سلكها هؤلاء لنتجنبها ، كما نبين الطريق التي سلكها الراسخون لنسلكها ، وقد بين ذلك أهل أصول الفقه ، وبسطوا القول فيه ، ولم يبسطوا القول في طريق الزائغين ، فهل يمكن حصر مآخذها أو لا ؟
فنظرنا في آية أخرى تتعلق بهم كما تتعلق بالراسخين ، وهي قوله تعالى : وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله [ ص: 286 ] فأفادت الآية أن طريق الحق واحدة ، وأن للباطل طرقا متعددة لا واحدة ، وتعددها لم يحص بعدد مخصوص .
وهكذا الحديث المفسر للآية ، وهو قول : ابن مسعود ، ثم تلا هذه الآية . خط لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم خطا ، فقال : هذا سبيل الله مستقيما ، ثم خط خطوطا عن يمينه وعن يساره ، وقال : هذه سبل ، على كل سبيل منها شيطان يدعو إليه
ففي الحديث أنها خطوط متعددة غير محصورة بعدد ، فلم يكن لنا سبيل إلى حصر عددها من جهة النقل ، ولا لنا أيضا سبيل إلى حصرها من جهة العقل أو الاستقراء .
أما العقل ؛ فإنه لا يقضي بعدد دون آخر ؛ لأنه غير راجع إلى أمر محصور ، ألا ترى أن الزيغ راجع إلى الجهالات ؟ ووجوه الجهل لا تنحصر ، فصار طلب حصرها عناء من غير فائدة .
وأما الاستقراء ؛ فغير نافع أيضا في هذا المطلب ؛ لأنا لما نظرنا في طرق البدع من حين نبتت ؛ وجدناها تزداد على الأيام ، ولا يأتي زمان إلا وغريبة من غرائب الاستنباط تحدث ، إلى زماننا هذا ، وإذا كان كذلك ؛ فيمكن أن يحدث بعد زماننا استدلالات أخر لا عهد لنا بها فيما تقدم ، لا سيما عند كثرة الجهل ، وقلة العلم ، وبعد الناظرين فيه عن درجة الاجتهاد ، فلا يمكن إذا حصرها من هذا الوجه .
ولا يقال : إنها ترجع إلى مخالفة طريق الحق ؛ فإن وجوه المخالفات [ ص: 287 ] لا تنحصر أيضا ، فثبت أن تتبع هذا الوجه عناء ، لكنا نذكر من ذلك أوجها كلية يقاس عليها ما سواها .
فمنها : اعتمادهم على الأحاديث الواهية الضعيفة والمكذوب فيها على رسول الله صلى الله عليه وسلم والتي لا يقبلها أهل صناعة الحديث في البناء عليها :
كحديث الاكتحال يوم عاشوراء ، وإكرام الديك الأبيض ، وأكل الباذنجان بنية ، وأن النبي صلى الله عليه وسلم تواجد واهتز عند السماع حتى سقط الرداء عن منكبيه . . . وما أشبه ذلك .
فإن أمثال هذه الأحاديث ـ على ما هو معلوم ـ لا يبنى عليها حكم ، ولا تجعل أصلا في التشريع أبدا ، ومن جعلها كذلك ؛ فهو جاهل أو مخطئ في نقل العلم ، فلم ينقل الأخذ بشيء منها عمن يعتمد به ( في ) طريقة العلم ولا طريقة السلوك .
وإنما أخذ بعض العلماء بالحديث الحسن ؛ لإلحاقه عند المحدثين بالصحيح ؛ لأن سنده ليس فيه من يعاب بجرحه متفق عليها ، وكذلك أخذ من أخذ منهم بالمرسل ليس إلا من حيث ألحق بالصحيح في أن المتروك ذكره كالمذكور والمعدل ، فأما ما دون ذلك ؛ فلا يؤخذ به بحال عند علماء الحديث .
ولو كان من شأن أهل الإسلام الذابين عنه الأخذ من الأحاديث بكل ما جاء عن كل من جاء ؛ لم يكن لانتصابهم للتعديل والتجريح معنى ، [ ص: 288 ] مع أنهم قد أجمعوا على ذلك ، ولا كان لطلب الإسناد معنى يتحصل ، فلذلك جعلوا الإسناد من الدين ، ولا يعنون : " حدثني فلان عن فلان " مجردا ، بل يريدون ذلك لما تضمنه من معرفة الرجال الذين يحدث عنهم ، حتى لا يسند عن مجهول ولا مجروح ولا منهم ؛ إلا عمن تحصل الثقة بروايته ؛ لأن روح المسألة أن يغلب على الظن من غير ريبة أن ذلك الحديث قد قاله النبي صلى الله عليه وسلم ؛ لنعتمد عليه في الشريعة ، ونسند إليه الأحكام .
والأحاديث الضعيفة الإسناد لا يغلب على الظن أن النبي صلى الله عليه وسلم قالها ، فلا يمكن أن يسند إليها حكم ، فما ظنك بالأحاديث المعروفة الكذب ؟ ! نعم ؛ الحامل على اعتمادها في الغالب إنما هو ما تقدم من الهوى المتبع .
وهذا كله على فرض أن لا يعارض الحديث أصل من أصول الشريعة ، وأما إذا كان له معارض ؛ فأحرى أن لا يؤخذ به ؛ فهو هدم لأصل من أصول الشريعة ، والإجماع على منعه إذا كان صحيحا في الظاهر ، وذلك دليل على الوهم من بعض الرواة أو الغلط من بعض الرواة أو النسيان ، فما الظن به إذا لم يصح ؟
على أنه قد روي عن : أنه قال : " أحمد بن حنبل خير من القياس " ، وظاهره يقتضي العمل بالحديث غير الصحيح ؛ لأنه قدمه على القياس المعمول ( به ) عند جمهور المسلمين ، بل هو إجماع السلف رضي الله عنهم ، فدل على أنه عنده أعلى رتبة من العمل بالقياس . الحديث الضعيف
[ ص: 289 ] والجواب عن هذا : أنه كلام مجتهد يحتمل اجتهاده الخطأ والصواب ، إذ ليس له على ذلك دليل يقطع العذر ، وإن سلم ؛ فيمكن حمله على خلاف ظاهره ؛ لإجماعهم على طرح الضعيف الإسناد ، فيجب تأويله على أن يكون أراد به الحسن السند وما دار به على القول بإعماله ، أو أراد : خير من القياس لو كان مأخوذا به ، فكأنه يرد القياس بذلك الكلام مبالغة في معارضة من اعتمده أصلا حتى رد به الأحاديث ، وقد كان رحمه الله تعالى يميل إلى نفي القياس ، ولذلك قال : " ما زلنا نلعن أهل الرأي ويلعنونا حتى جاء فخرج بيننا " ، أو أراد بالقياس القياس الفاسد الذي لا أصل له من كتاب ولا سنة ولا إجماع ، ففضل عليه الحديث الضعيف وإن لم يعمل به ، وأيضا ؛ فإذا أمكن أن يحمل كلام الشافعي أحمد على ما يسوغ ؛ لم يصح الاعتماد عليه في معارضة كلام الأئمة .
فإن قيل : هذا كله رد على الأئمة ؛ فإنهم كما نصوا على اشتراط صحة الإسناد ؛ كذلك نصوا أيضا على أن أحاديث الترغيب والترهيب لا يشترط في نقلها للاعتماد صحة الإسناد ، بل إن كان ذلك ؛ فبها ونعمت ، وإلا ؛ فلا حرج على من نقلها واستند إليها ، فقد فعله الأئمة كـ الذين اعتمدوا على الأحاديث التي لم تبلغ درجة الصحيح مالك في الموطأ ، و في " رقائقه " ، و ابن المبارك في " رقائقه " ، و أحمد بن حنبل سفيان في " جامع الخير " ، وغيرهم .
فكل ما في هذا النوع من المنقولات راجع إلى الترغيب والترهيب ، وإذا جاز اعتماد مثله ؛ جاز فيما كان نحوه مما يرجع إليه ، كصلاة الرغائب ، [ ص: 290 ] والمعراج ، وليلة النصف من شعبان ، وليلة أول جمعة من رجب ، وصلاة الإيمان ، والأسبوع ، وصلاة بر الوالدين ، ويوم عاشوراء ، وصيام رجب ، والسابع وعشرين منه . . . . وما أشبه ذلك ؛ فإن جميعها راجع إلى الترغيب في العمل الصالح ، فالصلاة على الجملة ثابت أصلها ، وكذلك الصيام وقيام الليل ؛ كل ذلك راجع إلى خير نقلت فضيلته على الخصوص .
وإذا ثبت هذا ؛ فكل ما نقلت فضيلته في الأحاديث ؛ فهو من باب الترغيب ، فلا يلزم فيه شهادة أهل الحديث بصحة الإسناد ؛ بخلاف الأحكام .
فإذا ؛ هذا الوجه من الاستدلال من طريق الراسخين لا من طريق الذين في قلوبهم زيغ ، حيث فرقوا بين أحاديث الأحكام فاشترطوا فيها الصحة ، وبين أحاديث الترغيب والترهيب فلم يشترطوا فيها ذلك .
فالجواب : أن ما ذكره علماء الحديث من التساهل في أحاديث الترغيب والترهيب لا ينتظم مع مسألتنا المفروضة ، وبيانه : أن العمل المتكلم فيه إما أن يكون منصوصا على أصله جملة وتفصيلا ، أو لا يكون [ ص: 291 ] منصوصا عليه لا جملة ولا تفصيلا ، أو يكون منصوصا عليه جملة لا تفصيلا .
فالأول : لا إشكال في صحته ؛ كالصلوات المفروضات ، والنوافل المرتبة لأسباب وغير أسباب ، وكالصيام المفروض أو المندوب على الوجه المعروف ؛ إذا فعلت على الوجه الذي نص عليه من غير زيادة ولا نقصان ؛ كصيام عاشوراء ، أو يوم عرفة ، والوتر بعد نوافل الليل ، وصلاة الكسوف .
فالنص جاء في هذه الأشياء صحيحا على ما شرطوا ، فثبتت أحكامها من الفرض والسنة والاستحباب ، فإذا ورد في مثلها أحاديث ترغيب فيها أو تحذير من ترك الفرض منها ، وليست بالغة مبلغ الصحة ، ولا هي أيضا من الضعف بحيث لا يقبلها أحد أو كانت موضوعة لا يصح الاستشهاد بها ؛ فلا بأس بذكرها ، والتحذير بها والترغيب ؛ بعد ثبوت أصلها من طريق صحيح .
والثاني : ظاهر أنه غير صحيح ، وهو عين البدعة ؛ لأنه لا يرجع إلا لمجرد الرأي المبني على الهوى ، وهو أبدع البدع وأفحشها ؛ كالرهبانية المنفية عن الإسلام ، والخصاء لمن خشي العنت ، والتعبد بالقيام في الشمس ، أو بالصمت من غير كلام أحد ، فالترغيب في مثل هذا لا يصح ، إذ لا يوجد في الشرع ، ولا أصل له يرغب في مثله ، أو يحذر من مخالفته .
والثالث : ربما يتوهم أنه كالأول ، من جهة أنه إذا ثبت أصل عبادة في الجملة ؛ فيسهل في التفصيل نقله من طريق غير مشترط الصحة ، فمطلق التنفل بالصلاة مشروع ، فإذا جاء ترغيب في صلاة ليلة النصف من [ ص: 292 ] شعبان ؛ فقد عضده أصل الترغيب في صلاة النافلة ، وكذلك إذا ثبت أصل صيام ؛ ثبت صيام السابع والعشرين من رجب . . . . وما أشبه ذلك .
وليس كما توهموا ؛ لأن الأصل إذا ثبت في الجملة لا يلزم إثباته في التفصيل ، فإذا ثبت مطلق الصلاة ؛ لا يلزم منه إثبات الظهر والعصر أو الوتر أو غيرها حتى ينص عليها على الخصوص ، وكذلك إذا ثبت مطلق الصيام ؛ لا يلزم منه إثبات صوم رمضان أو عاشوراء أو شعبان أو غير ذلك ، حتى يثبت بالتفصيل بدليل صحيح ، ثم ينظر بعد ذلك في أحاديث الترغيب والترهيب بالنسبة إلى ذلك العمل الخاص الثابت بالدليل الصحيح .
وليس فيما ذكر في السؤال شيء من ذلك ، إذ لا ملازمة بين ثبوت التنفل الليلي والنهاري في الجملة وبين قيام ليلة النصف من شعبان بكذا وكذا ركعة يقرأ في كل ركعة منها بسورة كذا على الخصوص كذا وكذا مرة ، ومثله صيام اليوم الفلاني من الشهر الفلاني ، حتى تصير تلك العبادة مقصودة على الخصوص ، ليس في شيء من ذلك ما يقتضيه مطلق شرعية التنفل بالصلاة أو الصيام .
والدليل على ذلك أن تفضيل يوم من الأيام أو زمان من الأزمنة بعبادة ما يتضمن حكما شرعيا فيه على الخصوص ؛ كما ثبت لعاشوراء ـ مثلا ـ أو لعرفة أو لشعبان مزية على مطلق التنفل بالصيام ، فإنه ثبت له مزية على الصيام في مطلق الأيام ؛ فتلك المزية اقتضت مرتبة في الأحكام أعلى من غيرها ، بحيث لا تفهم من مطلق مشروعية صيام النافلة ؛ لأن مطلق المشروعية يقتضي أن الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف في الجملة ، وصيام يوم عاشوراء يقتضي أنه يكفر السنة التي قبله ، فهو أمر زائد [ ص: 293 ] على مطلق المشروعية ، ومساقه يفيد له مزية في الرتبة ، وذلك راجع إلى الحكم .
فإذا ؛ هذا الترغيب الخاص يقتضي مرتبة في نوع من المندوب خاصة ، فلا بد من رجوع إثبات الحكم إلى الأحاديث الصحيحة ؛ بناء على قولهم : " إن الأحكام لا تثبت إلا من طريق صحيح " ، والبدع المستدل عليها بغير الصحيح لا بد فيها من الزيادة على المشروعات ؛ كالتقييد بزمان أو عدد أو كيفية ما ، فليلزم أن تكون أحكام تلك الزيادات ثابتة بغير الصحيح ، وهو ناقض لما أسسه العلماء .
ولا يقال : إنهم يريدون أحكام الوجوب والتحريم فقط ؛ لأنا نقول : هذا تحكم من غير دليل ، بل الأحكام خمسة ، فكما لا يثبت الوجوب إلا بالصحيح ؛ [ فكذلك لا يثبت الندب والكراهة والإباحة إلا بالصحيح ] ، فإذا ثبت الحكم فاستسهل أن يثبت في أحاديث الترغيب والترهيب ، ولا عليك .
فعلى كل تقدير : كل ما رغب فيه ؛ إن ثبت حكمه ومرتبته في المشروعات من طريق صحيح ؛ فالترغيب فيه بغير الصحيح مغتفر ، وإن لم يثبت إلا من حديث الترغيب ؛ فاشترط الصحة أبدا ، وإلا ؛ خرجت عن طريق القوم المعدودين في أهل الرسوخ ، فلقد غلط في المكان جماعة ممن ينسب إلى الفقه ، ويتخصص عن العوام بدعوى رتبة الخواص ، وأصل هذا الغلط عدم فهم كلام المحدثين في الموضعين ، وبالله التوفيق .