أضحك سنك بعد الأمل ولم يبك عينك قرب الأجل كأنك لم تر حيا يساق
ولم تر ميتا على مغتسل
، أما الكأس بيد الساقي ومنه شربوا . قل للذين غفلوا ولعبوا كأنهم قد تعبوا ، ما لهم عبرة في الذين ذهبوا
سير الليالي إلى أعمارنا خبب فما تبين ولا يعتاقها نصب
كيف النجاء وأيديها مصممة بذبحنا بمدى ليست لها نصب
وهل يؤمل نيل الشمل ملتئما سفر لهم كل يوم رحلة عجب
وما إقامتنا في منزل هتفت فيه بنا مذ سكنا ربعه نوب
وآذنتنا وقد تمت عمارته بأنه عن قليل دائر خرب
أزرت بنا هذه الدنيا فما أمل إلا لريب المنايا عنده أرب
ليست سهام الموت طائشة وهل تطيش سهام كله نصب
ونحن أغراض أنواع البلاء بها قبل الممات فمرمي ومرتقب
أين الذين تناهوا في ابتنائهم صاحت بهم نائبات الدهر فانقلبوا
نائبات في كل يوم تنوب وخطوب تأتي وتمضي خطوب
ما عجيب مكر الزمان ولكن ثقة النفس بالزمان عجيب
كم دعتني إلى زخارفها الدنيا فنادت مني الذي لا يجيب
ومتى سامحت خليلا بحظ خالفتها فاسترجعته الخطوب
كم إلى كم نذود عنها وننهى غير أن القلوب ما تستجيب
وصلاح الأجسام سهل ولكن في صلاح القلوب يعيى الطبيب
هي الدنيا فلا يغررك منها زخارف تستغر ذوي العقول
أقل قليلها يكفيك منها ولكن ليس تقنع بالقليل
محن الدنيا ولذاتها أنموذج ما في الآخرة ، فلو أصغى سمع القلب فهم .
لما أهديت إلى معاذة العدوية أدخله ابن أخيه الحمام ، ثم أدخله بيتا مطيبا فقام يصلي حتى برق الفجر ، فقامت فصلت . قال : فأتيته فقلت : يا عم أهديت إليك ابنة عمك فقمت تصلي ؟ ! فقال : يا بن أخي أدخلتني أمس بيتا أذكرتني به النار ، ثم أدخلتني الليلة بيتا أذكرتني به الجنة ، فما زال فكري فيهما إلى الصباح ! صلة بن أشيم
يا أيها الراحل وما له رواحل ، يكفي في الوعظ أربعون كوامل ، كلهن من فعل الخير عواطل ، متى تسمع قول العاذل ، متى تؤثر المكاتبات بالرسائل ، أما أنت في صف الحرب تقاتل ، هذا العدو ينصب الحبائل قد فوق السهم وأم المقاتل ، إلى متى ترضى باسم جاهل ، إلى متى تؤثر لقب غافل ، كم تعد بالتوبة وكم تماطل ، أين قلبك ؟ قلبك على مراحل .
كم أسمعك الموت وعيدك ، فلم تنتبه حتى قطع وريدك ، ونقض منزلك وهدم مشيدك ، ومزق مالك وفرق عبيدك ، وأخلى دارك وملأ بيدك ، أما رأيت قرينك ؟ أما أبصرت فقيدك ، يا ميتا عن قليل مهد تمهيدك ، وانظر لنفسك مجتهدا وحقق تجويدك ، لقد [ ص: 555 ] أمرضك الهوى وفي عزمه أن يزيدك ، يا عجبا للجاهل المغرور كيف يشتغل بعمارة الدور ، قد بعث الموت للرحيل المنشور ، السقام أقلامه واللحود السطور :
خذ ما صفا لك فالحياة غرور والموت آت واللبيب خبير
لا تعتبن على الزمان فإنه فلك على قطب الهلاك يدور
تعفو السطور إذا تقادم عهدها والخلق في رق الحياة سطور
كل يفر من الردى ليفوته وله إلى ما فر منه مصير
فانظر لنفسك فالسلامة نهزة وزمانها ضافي الجناح يطير
مرآة عيشك بالشباب صقيلة وجناح عمرك بالمشيب كسير
بادر فإن الوقت سيف قاطع والعمر جيش والشباب أمير
فإذا انشقت السماء فكانت وردة كالدهان قوله تعالى
قال المفسرون : تنفرج السماء من المجرة لنزول من فيها يوم القيامة . فكانت وردة كالدهان . فيها قولان : أحدهما : أنها الفرس الوردة تكون السماء كلونها ، قاله أبو صالح والضحاك ، قال : الفرس الوردة تكون في الربيع إلى الصفرة ، فإذا اشتد الحر كانت حمراء ، فإذا كان بعد ذلك كانت إلى الغبرة . فشبه تلون السماء بتلون الوردة من الخليل . قال الزجاج : الكميت الورد يتلون ، فيكون لونه في الشتاء خلاف لونه في الصيف ، ولونه في الفصل خلاف لونه في الشتاء والصيف ، فالسماء تتلون من الفزع . الفراء
والثاني : أنها وردة النبات ، وقد تختلف ألوانها إلا أن الأغلب عليها الحمرة . ذكره الماوردي .
وفي الدهان قولان : أحدهما أنه واحد الأديم الأحمر . قاله . والثاني : أنه جمع دهن ، والدهن تختلف ألوانه بخضرة وحمرة وصفرة . حكاه ابن عباس اليزيدي ، وإلى نحوه ذهب . وقال مجاهد : شبه تلون السماء بتلون الوردة من الخيل ، وشبه الوردة في اختلاف ألوانها بالدهن . الفراء
قوله تعالى : فيومئذ لا يسأل عن ذنبه إنس ولا جان فيه ثلاثة أقوال :
أحدها : لا يسألون ليعلم حالهم ، لأن الله تعالى أعلم منهم بذلك .
والثاني : لا يسأل بعضهم بعضا عن حاله لاشتغال كل منهم بنفسه . والقولان عن . والثالث : لا يسألون عن [ ص: 556 ] ذنوبهم لأنهم يعرفون بسيماهم ، فالكافر أسود الوجه ، والمؤمن أغر محجل من أثر وضوئه ، قاله ابن عباس . وقال الفراء لا يسأل عن ذنبه بسيفهم ، ولكنه يسأل سؤال توبيخ . الزجاج
قوله تعالى : يعرف المجرمون بسيماهم قال : بسواد الوجوه ، وزرق الأعين . الحسن
فيؤخذ بالنواصي والأقدام فيه قولان : أحدهما أن خزنة جهنم تجمع بين نواصيهم إلى أقدامهم من وراء ظهورهم ثم يدفعونهم على وجوههم في النار . قاله مقاتل . والثاني : يؤخذ بالنواصي والأقدام يسحبون إلى النار . ذكره الثعلبي .
وروى مردويه الصائغ قال : صلى بنا الإمام صلاة الصبح فقرأ سورة الرحمن ومعنا علي بن الفضيل بن عياض فلما قرأ يعرف المجرمون بسيماهم خر مغشيا عليه حتى فرغنا من الصلاة ، فلما كان بعد ذلك قلنا له أما سمعت الإمام يقرأ : حور مقصورات في الخيام فقال شغلني عنها : يعرف المجرمون بسيماهم .
قوله تعالى : هذه جهنم التي يكذب بها المجرمون يعني المشركين .
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : . انفرد بإخراجه " يؤتى بجهنم يومئذ لها سبعون ألف زمام ، مع كل زمام سبعون ألف ملك يجرونها " . مسلم
قوله عز وجل : يطوفون بينها وبين حميم آن الحميم : الماء الحار . والآني : الذي قد انتهت شدة حره . والمعنى أنهم يسعون بين عذاب الجحيم وبين الحميم إذا استغاثوا من النار جعل غياثهم الحميم الشديد الحرارة .
عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : . " إن الحميم ليصب على رؤوسهم فينفذ الحميم حتى يخلص إلى جوفه حتى يمرق من قدميه ثم يعاد كما كان "
قوله عز وجل ولمن خاف مقام ربه جنتان وفيه قولان : أحدهما : قيامه بين يدي ربه يوم الجزاء ، والثاني : قيام الله على عبده بإحصاء ما اكتسب .
قال : مجاهد ولمن خاف مقام ربه جنتان وهو الذي إذا هم بمعصية ذكر مقام ربه عليه فيها فانتهى ، وقال : جنتان من ذهب للسابقين ، وجنتان من فضة للتابعين . أبو موسى
[ ص: 557 ] قال : كان في زمن الحسن البصري رضي الله عنه شاب يلازم المسجد والعبادة ، فعشقته امرأة فأتته في خلوة فكلمته ، فحدث نفسه بذلك فشهق شهقة فغشي عليه ، فجاء عم له فحمله إلى بيته ، فلما أفاق قال : يا عم انطلق إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه فأقرئه مني السلام وقل له : ما جزاء من خاف مقام ربه ؟ فانطلق عمه ، فأخبر عمر رضي الله عنه ، فأتاه عمر رضي الله عنه ، وقد شهق فمات ، فوقف عليه عمر وقال : لك جنتان . عمر
عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : . أخرجاه في الصحيحين . " سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله : الإمام العادل ، وشاب نشأ في عبادة الله عز وجل ، ورجل قلبه معلق بالمساجد ، ورجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه ، ورجل تصدق بصدقة أخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه ، ورجل ذكر الله عز وجل خاليا ففاضت عيناه ، ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال إلى نفسها فقال : إني أخاف الله عز وجل "
وقال : لا يحمد ورع امرئ حتى يشفي على طمع ويقدر عليه فيتركه حين تركه لله عز وجل . يحيى بن أبي كثير
آه من نفس ما يقر قرارها ، طلعت شمس الشيب وما خبت نارها ، ما لاحت لها شهوة إلا قل اصطبارها ، ما بانت لها موعظة فبان اعتبارها ، كم وعظها ليلها ونهرها نهارها ، الذنب لباسها والجهل شعارها ، كم نكثر النصائح وما تقل أوزارها ، كم تقوم وما يصلح ازورارها ، كم تلاءم لطفا وما يرعوي نفارها ، كلما جذبها أملها زاد اغترارها ، إلى كم مع المعاصي أما يلزمها عارها ، أساء تدبيرها أم قبح اختيارها ، من يأخذ بيدها إذا طال عثارها .
إن النفس إذا أطمعت طمعت ، وإذا أقنعت باليسير قنعت ، فإذا أردت صلاح مرضها فبترك غرضها ، احبس لسانها عن فضول كلماتها ، وغض طرفها عن محرم نظراتها ، وكف كفها عن مؤذي شهواتها إن شئت أن تسعى لها في نجاتها .
إخواني : علامة الاستدراج العمى عن عيوب النفس ، ما ملكها عبد إلا عز وما ملكت عبدا إلا ذل :
الحرص في كل الأفانين يصم أما رأيت كل ظهر ينقصم
وعروة من كل حي تنفصم أما سمعت الحادثات تختصم
[ ص: 558 ] قال : يقول الله عز وجل : وعزتي إني لأهم بعذاب أهل الأرض ، فإذا نظرت إلى أهل الجوع والعطش من مخافتي صرفت عنهم العذاب . مالك بن دينار
وقال : الذكر ذكران : ذكر باللسان ، وأفضل منه ذكر الله عند ما يشرف عليه من معاصيه . ميمون بن مهران
عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : الكفل من بني إسرائيل لا يتورع من ذنب ، فأتته امرأة فأعطاها ستين دينارا ، فلما قعد منها مقعد الرجل أرعدت وبكت ، فقال : ما يبكيك ؟ قالت : هذا عمل لم أعمله قط . فقال اذهبي والدنانير لك . ثم قال : والله لا يعصي الله الكفل أبدا ، فمات من ليلته ، فأصبح مكتوبا على بابه : قد غفر الله للكفل . " كان
يا من لا يترك ذنبا يقدر عليه ، يا من أكثر عمله الذي له عليه ، كم ضيعت في المعاصي عصرا ، كم حملت على الأزر من الوزر أزرا ، أترضى أن تملأ الصحائف عيبا وخسرا ، أما يكفي سلب القرين وعظا وزجرا ، لقد ضيعت شطرا من الزمان فاحفظ شطرا ، ما أبقت لك الصحة حجة ولا تركت عذرا ، كم نعمة نزلت بك وما قرنتها شكرا ، تقابلها بالمعاصي فتبدل العرف نكرا ، كم سترك على الخطايا وأنت لا تقلع دهرا ، كم نمت عن صلاة وكم شربت خمرا ، كان الشيب هلالا وقد صار بدرا ، تعاهد ولا تفي إلى كم غدرا ، أطال عليك الأمد فصار القلب صخرا ؟ إنما بقي القليل فصبرا يا نفس صبرا .
صبا من شاب مفرقه تصابي وإن طلب الصبا والقلب صابي
أعاذل راضني لك شيب رأسي ولولا ذاك أعياك اقتضابي
كفى بالشيب من ناه مطاع على كره ومن داع مجاب
حططت إلى النهى رحلي وكلت مطية باطلي بعد الهباب
وقلت مسلما للشيب أهلا بهادي المخطئين إلى الصواب
يذكرني الشباب وميض برق وسجع حمامة وحنين ناب
أأفجع بالشباب ولا أعزى لقد غفل المعزي عن مصابي
سجع : يا دائم الخطايا والعصيان ، يا شديد البطر والطغيان ، ربح المتقون ولك الخسران ولمن خاف مقام ربه جنتان .
يا معتكفا على زلله وذنبه ، لا يؤثر عنده أليم عتبه ، أما المصر فقد طمس على قلبه فلا ينفعه وعظ اللسان ولمن خاف مقام ربه جنتان .
[ ص: 559 ] كم خوفت وما تخاف ، يا من إذا أمر بالعدل حاف ، الويل لك يا صاحب الإسراف ولمن خاف مقام ربه جنتان .
لو رأيت أهل الزيغ والعناد ، وأرباب المعاصي والفساد ، مقرنين في الأصفاد سرابيلهم من قطران ولمن خاف مقام ربه جنتان . قد سدت في وجوههم الأبواب ، وغضب عليهم رب الأرباب ، والنار شديدة الالتهاب والعذاب فيها ألوان ولمن خاف مقام ربه جنتان أعرض عنهم الرحيم ومنعهم خيره الكريم ، ويتقلبون في الجحيم يطوفون بينها وبين حميم آن سعيرهم قد أحرق ، وزمهريرهم قد مزق ، ونور المتقين قد أشرق ، متكئين على فرش بطائنها من إستبرق وجنى الجنتين دان .
سارت بهم إلى الجد المطايا ، فأجزلت لهم جزيل العطايا ولأرباب الخطايا النيران ، من عليهم بنعيم ما من ، لا يخطر لمن يتوهم ويظن ، وقد كفانا صفة الحور من وصفهن كأنهن الياقوت والمرجان .
أيها العاصي قد اجتهدنا في صلاحك ، وعرضنا في التجارة لأرباحك ، وأنت على المعاصي في مسائك وصباحك ، وبعد فما نيأس من فلاحك كل يوم هو في شأن ولمن خاف مقام ربه جنتان .
[ ص: 560 ] [ ص: 561 ]