32 - فصل
[ في أحكام الضمان في الجزية ]
وقعت مسألة : وهي هل يصح ضمان الجزية عمن هي عليه أم لا ؟
[ ص: 225 ] فكان الجواب : لا يخلو إما أن يكون الضامن مسلما أو كافرا ، فإن كان مسلما لم يصح ضمانه ; لأن الجزية صغار فلا يجوز للمسلم أن يضمنها عن الكافر ; لأنه يصير مطالبا بها وهو فرع على المضمون عنه فلا يصح ذلك كما لو ضمن ما عليه من العقوبة ، وإن كان الضامن ذميا فإن ضمنها بعد الحول صح ضمانه لأنه ضمن دينا مستقرا على من هو في ذمته ، وإن كان بمعرض من السقوط بالإسلام فهذا لا يمنع صحة الضمان كما يصح ضمان الصداق قبل الدخول ، وإن كان بمعرض سقوطه كله أو نصفه ، وكما يصح ضمان ثمن البيع قبل قبضه ، وإن كان بصدد السقوط بتلفه .
وإن ضمنها قبل الحول فهذا ينبني على ضمان ما لم يجب ، والجمهور يصححونه يبطله فإذا صححناه صح والشافعي كما يصح ضمان ما يداينه به أو ما يتلفه عليه وغايته أنه ضمان معلق بشرط ، وذلك لا يبطله فإن الضمان يجري مجرى النذر ، فإنه التزام فلا ينافيه التعليق بالشرط . ضمان الذمي للجزية
ولأصحاب وجهان في صحة الشافعي . ضمان المسلم للجزية عن الذمي
قال بعضهم : وذلك مبني على أنه هل يجب عند أداء الجزية الصغار من جر اليد والانتهار والإذلال أم لا ؟ فإن أوجبناه لم يصح الضمان ، وإن لم نوجبه صح .
قال الجويني في " نهايته " : والأصح عندي تصحيح الضمان فإن [ ص: 226 ] ذلك لا يقطع إمكان توجيه الطلب على المضمون عنه .
قلت : وعلى هذا المأخذ فينبغي ألا يصح ضمان الذمي أيضا للجزية ; لأنه يفضي إلى سقوط الصغار عن المضمون عنه إذا أدى الضامن كما أجروا الخلاف في توكيل الذمي الذمي في أداء الجزية عنه ، ولم أر لأصحابنا في هذه المسألة كلاما إلا ما ذكره أبو عبد الله بن حمدان في " رعايته " فقال : " وهل للمسلم أن يتوكل لذمي في أداء جزيته أو أن يضمنها عنه أو أن يحيل الذمي عليه بها ؟ يحتمل وجهين أظهرهما المنع " انتهى .
وعلى هذا يجري الخلاف فيما إذا تحملها عنه مسلم أو ذمي ، والحمالة أن يقول : أنا ملتزم لما على فلان بشرط براءة ذمته منه ، وقد اختلف الفقهاء في أصل هذه الحمالة .
فالشافعي وأحمد لا يصححانها ، هكذا ذكره أصحابه عنه ، ولا نص له في المنع ، والصحيح الجواز وهو مقتضى أصوله وهو اختيار شيخنا ، وهو مذهب مالك وأبي حنيفة .
قالت الحنفية : المضمون له بالخيار ، إن شاء طالب الأصل وإن شاء طالب الضامن إلا إذا اشترط فيه براءة الأصل ، فحينئذ تنعقد حوالة اعتبارا بالمعنى كما أن الحوالة - بشرط ألا يبرأ المحيل - تكون كفالة ، فعندهم تصح الحوالة بشرط ألا يبقى الدين في ذمة المحيل ، وينقلب ضمانا ويصح الضمان بشرط براءة المضمون عنه ، وتنقلب حوالة ، وهذا صحيح لا يخالف نصا ولا قياسا ، ولا يتضمن غررا فالصواب القول به .
[ ص: 227 ] والمقصود أن المسلم لو تحمل عن الذمي بالجزية لم يصح تحمله ، وإن تحمل بها ذمي آخر عنه احتمل وجهين ، والذي يظهر في هذا كله : التفصيل في مسألة الحوالة والحمالة والضمان والتوكيل في الدفع ، أنه إن فعله لعذر من مرض أو غيبة أو حبس أو نحوه جاز ، وإن فعله غيرة وأنفة وهربا من الصغار لم يجز ذلك ، والله أعلم .
[ ص: 228 ] 33 - فصل
في السامرة واختلاف الفقهاء فيهم : ؟ هل يقرون بالجزية أم لا
فذهب الجمهور إلى إقرارهم بالجزية ، وتردد فيهم فمرة قال : لا تؤخذ منهم الجزية ، وقال في موضع آخر : تؤخذ منهم . الشافعي
وقال في " الأم " : " ينظر في أمرهم فإن كانوا يوافقون اليهود في أصل الدين ، ولكنهم يخالفونهم في الفروع لم تضر مخالفتهم ، فيقرون على دينهم فتؤخذ منهم الجزية ، وإن كانوا يخالفونهم في أصل الدين لم يقروا على دينهم ببذل الجزية " هذا نقل الربيع عنه .
وأما المزني فنقل عنه أنهم صنف من اليهود فتؤخذ منهم الجزية .
[ ص: 229 ] واختلف أصحابه في حكمهم فقال بعضهم : يقرون بالجزية ، وقال بعضهم لا يقرون بها وقال : لم يكن أبو إسحاق المروزي يعرف حقيقة أمر دينهم ، فتوقف في ذلك ثم بان له أنهم من جملة أهل الكتاب ، فرجع إلى ذلك وألحقهم بهم . الشافعي
وهذا الذي قاله المروزي هو الصواب المقطوع به ، وغلط من قال : لا يقرون بالجزية ويقر المجوس بها لأن لهم شبهة كتاب ، وهذا من العجب أن يقر قوم يعبدون النار ، ويعتقدون أن للعالم إلاهين اثنين النور والظلمة ، ولا يؤمنون ببعث ولا نشور ، ولا أن الله يبعث من في القبور ، ويرون نكاح الأمهات والبنات ، ولا يؤمنون برسول ولا يحرمون شيئا مما يحرمه الأنبياء ولا يقر السامرة بالجزية مع أنهم يؤمنون بموسى والتوراة ، ويدينون بها ويؤمنون بالمعاد والجنة والنار ، ويصلون صلاة اليهود ويصومون صومهم ، ويستنون بسنتهم ، ويقرءون التوراة ، ويحرمون ما يحرمه اليهود في التوراة ولا يخالفون اليهود في التوراة ولا في موسى وإن خالفوهم في الإيمان بالرسل ، فإن السامرة لا يؤمنون بنبي غير موسى وهارون ويوشع وإبراهيم فقط ، ويخالفونهم في القبلة ، فاليهود تصلي إلى بيت المقدس والسامرة تصلي إلى جبل عزون ببلد نابلوس وتزعم أنها القبلة التي أمر [ ص: 230 ] الله موسى أن يستقبلها وأنهم أصابوها وأخطأتها اليهود ، وأن الله أمر داود أن يبني بيت المقدس بجبل نابلوس وهو عندهم الطور الذي كلم الله عليه موسى فخالفه داود ، وبناه " بإيليا " فتعدى وظلم بذلك .
ولغتهم قريبة من لغة اليهود وليست بها ، وهم فرق كثيرة تشعبت عن فرقتين : دوسانية وكوسانية .
فالكوسانية : تقر بالمعاد وحشر الأجساد والجنة والنار .
والدوسانية : تزعم أن الثواب والعقاب في الدنيا وبينهما اختلاف في كثير من الأحكام .
وهذه الأمة من أقل الأمم في الأرض وأحمقها وأشدها مجانبة للأمم وأعظمها آصارا وأغلالا .
وإذا أردت معرفة نسبتهم إلى اليهود فهم فيهم كالرافضة في المسلمين ، وهذه الأمة لم تحدث في الإسلام بل هي أمة موجودة قبل الإسلام وقبل المسيح ، وقد فتح الصحابة الأمصار فأجمعوا على إقرارهم بالجزية ، وكذلك الأئمة والخلفاء بعدهم ، فعدم إقرارهم بالجزية تخطية لهم وهذا مما لا سبيل إليه .