باب
من بلادها للدخول في الإسلام وفود العرب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
وذلك في سنة تسع وسنة عشر. وحجته - صلى الله عليه وسلم - في سنة عشر:
لما فتح الله - عز وجل - على رسوله - عليه السلام - مكة ، وأظهره يوم حنين ، وانصرف من تبوك، وأسلمت ثقيف، أقبلت إليه وفود من العرب من كل وجه يدخلون في دين الله أفواجا. وأكثرهم كان ينتظر ما يكون من قريش لأنهم كانوا أئمة الناس من أجل البيت والحرم وأنهم صريح ولد إسماعيل - صلى الله عليه وسلم - . فلما فتح الله مكة عليه أهل الناس إليه، وكل من (قدم) عليه قدم راغبا في الإسلام إلا عامر بن الطفيل وأربد بن قيس في وفد بني عامر، وإلا مسيلمة في وفد بني حنيفة. فأما عامر بن الطفيل بن مالك بن جعفر بن كلاب وأربد بن قيس بن جزء بن خالد بن جعفر بن كلاب فإنهما قدما عليه في وفد بني عامر بن صعصعة وقد أضمر [ عامر بن الطفيل ] الفتك برسول الله - صلى الله عليه وسلم - والغدر به. وأربد بن قيس هو أخو لبيد لأمه، [ و ] كان عامر بن الطفيل قد قال له: إني شاغله عنك بالكلام، فإذا فعلت ذلك فاعله بالسيف. ثم جعل يسأله سؤال الأحمق ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: لا أجيبك في شيء مما سألت عنه حتى تؤمن بالله ورسوله. وأنزل الله على أربد البهت والرعب فلم يرفع يدا. فلما يئس منه عامر قال: يا محمد والله لأملأنها عليك خيلا ورجالا. فلما وليا قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : اللهم اكفني عامر بن الطفيل وأربد بن قيس. وقال عامر لأربد: ما منعك أن تفعل ما تعاقدنا [ ص: 254 ] عليه، والله لا أخافك بعدها، وما كنت أخاف غيرك. وخرجا جميعا في وفدهم راجعين إلى بلادهم، فلما كان ببعض الطريق بعث الله على عامر بن الطفيل الطاعون في عنقه، فقتله الله في بيت امرأة من بني سلول، فجعل يقول: أغدة كغدة البكر أو غدة البعير، وموتا في بيت سلولية. ووصل أربد إلى بلده، فقال له قومه: ما وراءك؟ قال: والله لقد دعاني إلى عبادة شيء لو أنه عندي اليوم لرميته بالنبل حتى أقتله. فلم يلبث بعد قوله هذا إلا يوما أو يومين، وأنزل الله عليه صاعقة، وكان على جمل قد ركبه في حاجة، فأحرقه الله - عز وجل - هو وجمله بالصاعقة.
وقدم عليه - صلى الله عليه وسلم - وفد بني حنيفة، فيهم مسيلمة بن حبيب يكنى أبا هارون، وقيل بل هو مسيلمة بن ثمامة يكنى أبا ثمامة. واختلف في دخوله على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فروي أنه دخل مع قومه على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهم يسترونه بالثياب فكلمه [ وسأله ] فأجابه رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنك لو سألتني هذا العسيب - لعسيب كان معه من سعف النخل - ما أعطيتكه. وقد روي أن بني حنيفة لما نزلوا بالمدينة خلفوا مسيلمة في رحالهم وأنهم أسلموا وذكروا مكان مسيلمة ، وقالوا: إنا قد خلفنا صاحبا لنا في رحالنا يحفظها لنا. فأمر لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بما سألوه، وأمر له بمثل ما أمر لقومه، وقال: أما إنه ليس بشركم مكانا أي لحفظه ضيعة أصحابه، ثم انصرفوا عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلما انتهوا إلى اليمامة ارتد عدو الله مسيلمة وادعى النبوة، وقال: قد أشركني الله في أمره. واتبعه أكثر قومه، وجعل لهم أسجاعا يضاهي بها القرآن، وأحل لهم الخمر [ والزنا ] ، وأسقط عنهم الصلاة فمن سجعه قوله: "لقد أنعم على الحبلى، أخرج منها نسمة تسعى من بين صفاق وحشى" ومثل هذا من سجعه، لعنه الله [ ص: 255 ] .
واتبعته بنو حنيفة إلا ثمامة بن أثال الحنفي بقي على الإيمان بالله ورسوله ولم يرتد مع قومه.
وقدم (عليه) - صلى الله عليه وسلم - وفد بني تميم، منهم عطارد بن حاجب بن زرارة بن عدس الدارمي، وقيس بن عاصم المنقري، وعمرو بن الأهتم من بني منقر بن عبيد أيضا، والزبرقان بن بدر من بني بهدلة، ونعيم بن يزيد، وقيس بن الحارث، والحتات بن يزيد المجاشعي وهو الذي آخى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بينه وبين معاوية، وقد ذكرنا خبره في بابه من كتاب الصحابة. وهؤلاء وجوه وفد تميم، وقدم معهم الأقرع بن حابس الدارمي وعيينة بن حصن الفزاري، وقد كانا قدما على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأسلما، وشهدا معه فتح مكة وحنينا وحصار الطائف ، ثم جاءا مع وفد تميم. ونادوه من وراء الحجرات، وخبرهم في السير والتفسير. وأسلموا ولم يظهر منهم بعد الإسلام إلا الخير والصلاح إلا أن عيينة كان أعرابيا جافيا جلفا مجنونا أحمق مطاعا في قومه.
وقدم عليه - صلى الله عليه وسلم - ضمام بن ثعلبة وافد قومه بني سعد بن بكر، وأسلم وحسن إسلامه، ورجع إلى قومه، فأسلموا.
وقدم عليه - صلى الله عليه وسلم - الجارود بن عمرو ، وقيل: ابن بشر، العبدي في طائفة من قومه عبد القيس، وكان الجارود نصرانيا فأسلم ومن معه. وسألوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يحملهم، فقال: والله ما عندي ما أحملكم عليه. فقالوا: إنا نمر فنجد من ضوال الإبل في طريقنا فنأخذها؟ فقال لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ضالة المؤمن حرق النار. وحسن إسلام عبد القيس. وكان الجارود فاضلا صليبا في ذات الله. ولما ارتدت العرب وارتد من ارتد من عبد قيس قام في رهطه، فأعلن بالإسلام ودعا إليه، وتبرأ ممن ارتد من قومه، وثبت هو ورهطه على الإسلام، وقد كان قدم الأشج العصري من عبد القيس في وفد منهم قبل فتح مكة فأسلموا. وقد كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعث [ ص: 256 ] قبل فتح العلاء بن الحضرمي مكة إلى المنذر بن ساوى العبدي، فأسلم وحسن إسلامه، ثم هلك بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قبل ردة أهل البحرين ، والعلاء عنده أمير لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - على البحرين .
وقدم على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وفد طيئ، فيهم زيد الخيل وهو سيدهم، فعرض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عليهم الإسلام، فأسلموا. وروي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ما وصف لي رجل من العرب إلا وجدته دون ما وصف إلا زيد الخيل فإن وصفه لم يبلغ [ ما ] وصف به. وسماه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - زيد الخير.
عدي بن حاتم الطائي في قومه من طيئ، وكان نصرانيا، فمضى به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأدخله [ إلى بيته ] وتناول وسادة من أدم حشوها ليف، فطرحها، وقال له: اجلس عليها، فقال: بل أنت فاجلس عليها يا رسول الله فجلس رسول الله في الأرض وأجلسه على الوسادة، ثم لم يزل يكلمه ويعرض عليه ما في دينه النصرانية مما أحدثوه فيه من الشرك، ويعرض عليه الإسلام ويخبره أنه دين سيبلغ ما بلغ الليل والنهار وأنه لا يبقى عربي إلا دخل فيه طوعا أو كرها، فقبل عدي الإسلام، وأسلم وحسن إسلامه، وتبعه قومه فأسلموا وحسن إسلامهم. وقدم على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
وقدم عليه فروة بن مسيك الغطيفي، وعداده في مراد، مفارقا لملوك كندة ومباعدا لهم إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأسلم وحسن إسلامه. وأمره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على قومه. ولم يرتد فروة حين ارتدت العرب.
[ وقدم عليه - صلى الله عليه وسلم - عمرو بن معد يكرب، وكان قد قال لقيس بن المكشوح: إنك سيد قومك وإن محمدا قد خرج بالحجاز نبيا، فاقدم بنا عليه، فإنا إن قدمنا عليه لم يخف علينا أمره، فأبى قيس بن المكشوح، فقدم عمرو هو وناس معه من [ ص: 257 ] زبيد . وهجره قيس بن المكشوح وهدد كل واحد منهما صاحبه. ثم أسلم قيس بن المكشوح سنة عشر، وكتب إليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وإلى فيروز الديلمي في قتال الأسود العنسي المتنبئ ] .
في وفد كندة، الأشعث بن قيس قال وقدم على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في ثمانين رجلا من ابن شهاب كندة، فأسلم وأسلموا، وقالوا: يا رسول الله نحن بنو آكل المرار وأنت من بني آكل المرار، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا، نحن من بني النضر بن كنانة لا نقفو أمنا ولا ننتفي من أبينا. وتبسم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من قولهم، وقال لهم: ائتوا العباس بن عبد المطلب وربيعة بن الحارث فناسبوهما بهذا النسب، وذلك أن العباس وربيعة كانا تاجرين يضربان في البلاد، فكانا إذا نزلا بقوم قالا: نحن بنو آكل المرار يتعززان بذلك. فكان الأشعث يقول: والله لا أسمع أحدا يقول: إن قريشا بنو آكل المرار إلا ضربته ثمانين. وآكل المرار هو الحارث بن عمرو بن حجر بن عمرو بن معاوية بن الحارث بن معاوية بن كندي، ويقال كندة. قال ابن هشام : والأشعث بن قيس من ولد آكل المرار من قبل النساء.
وقدم على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صرد بن عبد الله الأزدي - فأسلم وحسن إسلامه - في وفد من الأزد، وأمره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على من أسلم من قومه، وأمره أن يجاهد - بمن أسلم - من يليه من أهل الشرك من قبائل اليمن .
وقدم على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كتاب ملوك حمير، مقدمه من تبوك، بدخولهم في الإسلام، وإسلام همدان ومعافر وذي رعين، فكتب لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كتابا محفوظا عند الرواة. وبعث إليه زرعة ذو يزن بن مالك بن مرة الرهاوي بإسلامه وإسلام قومه ومفارقتهم الشرك، فكتب لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أيضا
وبعث فروة بن عمرو بن النافرة الجذامي ثم النفاثي إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رسولا [ ص: 258 ] بإسلامه وأهدى له بغلة بيضاء. وكان فروة عاملا للروم على من يليهم من العرب بأرض الشام ، فلما بلغ الروم إسلامه طلبوه حتى أخذوه فحبسوه فمات في حبسهم. وقد كان قدم على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في هدنة الحديبية قبل خيبر رفاعة بن زيد الجذامي ثم الضبيبي من بني الضبيب - فأهدى له غلاما وأسلم وحسن إسلامه.
وقال وغيره: كانت أبو إسحاق السبيعي همدان قد قدم وفدهم على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - منصرفه من تبوك، فآمنوا وأسلموا، وكتب لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وذكر ابن هشام خبرهم ورجزهم وشعرهم وما كتب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لهم، وذكر أنهم قدموا في الحبرات والعمائم العدنية. وفرح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقدومهم وإسلامهم.
وبعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في ربيع الآخر أو جمادى الأولى سنة عشر إلى خالد بن الوليد بني الحارث بن كعب بنجران يدعوهم إلى الإسلام، فأسلموا ودخلوا فيما دعاهم خالد إليه من الإسلام. فأقام عندهم خالد يعلمهم كتاب الله وشريعة الإسلام. وكتب إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بما فتح الله عليه من أهل نجران ومن انضاف إليهم، فأجابه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن كتابه، وأمره بالقدوم عليه، فقدم ومعه وفد بني الحارث بن كعب. فكتب لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبعث معهم عمرو بن حزم يفقههم في الدين ويعلمهم السنة، ومعالم الإسلام، ويأخذ منهم صدقاتهم. وكتب له بذلك كتابا فيه الصدقات والديات وكثير من سنن الإسلام. ورجع وفد بني الحارث بن كعب إلى قومهم في بقية شوال أو صدر ذي القعدة، فلم يمكثوا بعد أن رجعوا إلى قومهم إلا أربعة أشهر، حتى توفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - [ ص: 259 ] .