ذكر خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الشام في المرة الأولى وما اشتمل عليه ذلك من الدلائل المتقدمة لنبوته صلى الله عليه وسلم وهو ابن عشر سنين .
108 - أجمعت قريش أن يجهزوا عيرا إلى الشام بتجارات وأموال عظام ، وأجمع أبو طالب المسير في تلك العير ، فلما تهيأ له المسير انتظر رسول الله صلى الله عليه وسلم هل يشخص معه ، فرق عليه أبو طالب قال : أتخرج ؟ فكلمه عمومته وعماته ، وقالوا لأبي طالب : مثل هذا الغلام لا يخرج به ؛ تعرضه للأرياف والأوباء ، فهم أبو طالب بتخليفه ، فرآه يبكي قال : ما لك يا ابن أخي ؟ لعل بكاءك من أجل أني أريد أن أخلفك ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : نعم ، فقال أبو طالب : فإني لا أفارقك أبدا فاخرج معي فخرج ، فلما نزل الركب بصرى من الشام وبها راهب يقال له : " بحيرا " الراهب في صومعة وكان علماء النصارى يكونون في تلك الصومعة يتوارثونها عن كتاب يدرسونه ، فلما نزلوا ببحيرا وكان كثيرا ما يمرون به قبل ذلك لا يكلمهم ، حتى كان ذلك العام ، فنزلوا قريبا من صومعته وقد كانوا ينزلون قبل ذلك ، فلما مروا عليه صنع لهم طعاما ودعاهم ، وإنما حمله على ذلك أنه رآهم حين طلعوا وغمامة تظل رسول الله صلى الله عليه وسلم من بين القوم ، حتى نزلوا تحت شجرة ، ثم نظر تلك الغمامة قد أظلت الشجرة فتهصرت أغصان الشجرة على النبي صلى الله عليه وسلم حتى استظل ، فلما رأى بحيرا ذلك نزل من صومعته ، وأمر بذلك الطعام فأتي به ، وأرسل إليهم : يا معشر قريش إني قد صنعت لكم طعاما وأنا أريد أن تحضروه ولا يتخلفن منكم صغير ولا كبير ، ولا حر ولا عبد ، فإن هذا شيء تكرمونني به ، فقال رجل من القوم : إن لك لشأنا يا بحيرا ، ما كنت تصنع قبل هذا ، فما شأنك اليوم ؟ فقال : أحببت أن أكرمكم ، ولكم علي حق ، فاجتمعوا إليه ، وتخلف رسول الله صلى الله عليه وسلم لحداثة سنه ، ليس في القوم أصغر منه سنا ؛ ينظر رحالهم تحت الشجرة ، فلما نظر بحيرا إلى القوم ولم ير الصفة التي يعرف ويجدها عنده ، وجعل ينظر فلا يرى الغمامة على أحد [ ص: 169 ] من القوم ، ويراها محلقة على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال بحيرا : يا معشر قريش لا يتخلفن أحد منكم عن طعامي هذا ، قالوا : ما تخلف أحد إلا غلام ، وهو أحدث القوم سنا في رحالنا ، قال : ادعوه فليحضر طعامي ، فما أقبح من أن تحضروا ويتخلف واحد ، إني أراه من أنفسكم ، قالوا : هو والله من أوسطنا نسبا ، وابن أخي هذا الرجل ، وهو من ولد عبد المطلب ، فقام الحارث بن عبد المطلب بن عبد مناف فقال : والله كاد اليوم أن يتخلف ابن عبد المطلب من بيننا ، ثم قام إليه فاحتضنه ، وأقبل به حتى أجلسه على الطعام ، والغمامة تسير على رأسه ، وانقلعت الشجرة من أصلها حين فارقها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وجعل بحيرا يلحظه لحظا شديدا وينظر إلى شيء من جسده قد كان يجدها عنده من صفته ، فلما تفرقوا عن طعامهم قام إليه بحيرا فقال : يا غلام أسألك بحق اللات والعزى ، إلا أخبرتني عما أسألك عنه ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " وأي حق لهما عندي ؟ لا تسألني بحق الات والعزى ؛ فوالله ما أبغضت شيئا قط بغضهما ، وما تأملتهما بالنظر إليهما كراهة لهما ، ولكن اسألني بالله أخبرك عما تسألني عنه إن كان عندي علم " قال بحيرا : فبالله أسألك ، وجعل يسأله عن أشياء من أحواله فيخبره ، حتى سأله عن نومه ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : تنام عيناي ولا ينام قلبي ، وجعل ينظر في عينيه إلى الحمرة ثم قال لقومه : أخبروني عن هذه الحمرة تأتي وتذهب أو لا تفارقه ؟ قالوا : ما رأيناها فارقته قط ، وكلمه أن ينزع جبة عليه ، حتى نظر إلى ظهره وإلى خاتم النبوة بين كتفيه عليه السلام مثل زر الحجلة متواسطا ، فاقشعرت كل شعرة في رأسه ، وقبل موضع خاتم النبوة ، وجعلت قريش تقول : إن لمحمد عند هذا الراهب لقدرا ، وجعل أبو طالب - لما رأى من الراهب - يخاف على ابن أخيه .
ثم قال الراهب لأبي طالب : ما يكون هذا الغلام منك ؟ قال : ابني ، قال : ما هو بابنك ، وما ينبغي أن يكون أبوه حيا ، قال : فإنه ابن أخي ، قال : فما فعل أبوه ؟ قال أبو طالب : توفي وأمه حبلى به ، قال : فما فعلت أمه ؟ قال : توفيت قريبا ، قال : صدقت ، أبو طالب : من أخذها عليكم ؟ فتبسم الراهب ثم قال : الله أخذها علينا ، نزل به عيسى ابن مريم ، فأقلل اللبث وارجع به إلى بلده مولده ، فإني قد أديت إليك النصيحة ، فإن اليهود تطمع أن يكون فيها ، ومتى يعلموا أنه من غيرها يحسدوه . ارجع بابن أخيك إلى بلدك ، واحذر عليه اليهود ، فوالله إن رأوه أو عرفوا منه الذي أعرف ليبغنه عنتا ، فإنه كائن لابن أخيك شأن عظيم نجده في كتبنا ، وما ورثنا من آبائنا ، وقد أخذ علينا [ ص: 170 ] مواثيق ، قال
قال : ورآه رجال من اليهود فأرادوا أن يغتالوه ، وعرفوا صفته وهم : زريد وتمام ودبيس وهم من أهل الكتاب ، كانوا قد هموا وأجمعوا أن يغتالوه ، فذهبوا إلى بحيرا فذاكروه ذلك وهم يظنون أن بحيرا سيتابعهم على رأيهم ، فنهاهم أشد النهي ، وقال لهم : أتجدون صفته ؟ قالوا : نعم ، قال : فما لكم إليه سبيل ، فتركوه ، وخرج به أبو طالب راجعا سريعا خائفا من اليهود أن يغتالوه .
قال : أبي طالب يكلؤه الله ويحفظه من أمور الجاهلية ومعايبها ؛ لما يريد به من كرامته ، وعلى دين قومه حتى بلغ أن كان رجلا أفضل قومه مروءة ، وأحسنهم جوارا ، وأكرمهم مخالطة ، وأحسنهم خلقا ، وأعظمهم حلما ، وأصدقهم حديثا ، وأعظمهم أمانة ، وأبعدهم من الفحش والأذى ، ما رؤي ملاحيا أحدا ، ولا مماريا أحدا ، حتى سماه قومه الأمين ؛ لما جمع الله له من الأمور الصالحة ، فلقد كان الغالب عليه بمكة " الأمين " . وشب رسول الله صلى الله عليه وسلم مع