وقد جاءت السنة وتواترت بذلك الآثار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، واستعمل كثير من أصحابه ذلك بعده ، غير طائفة منهم تركت ذلك وذهبت إلى أن فرض الله - عز وجل - في هذه الآية التي تلونا في الرجلين ما أفرضه فيهما ، ناسخ لذلك ، منهم بطهارة المسح على الخفين روي عنه في ذلك ما : ابن عباس
124 - حدثنا قال : حدثنا محمد بن علي بن داود ، قال : حدثنا عبيد الله بن محمد بن عائشة ، عن أبو عوانة ، عن عطاء بن السائب ، سعيد بن جبير ، قال : " مسح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على الخفين ، فسئل الذين يزعمون أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد مسح على الخفين أقبل المائدة أو بعد المائدة ؟ والله ما مسح بعد المائدة ، ولأن أمسح على ظهر غبر بالفلاة أحب إلي من أن أمسح عليهما " . ابن عباس ، عن
وكان من الحجة في ذلك للذين ذهبوا إلى إثبات المسح عليهما ما روي في ذلك عن جرير بن عبد الله .
125 - حدثنا يونس ، قال : حدثنا عن سفيان بن عيينة ، عن الأعمش ، إبراهيم ، عن همام ، قال : " رأيت جريرا توضأ من المطهرة ، ثم مسح على خفيه ، فقلت له : أتمسح على خفيك ؟ فقال : إني . رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - " يمسح على خفيه "
كان هذا الحديث يعجب أصحاب عبد الله لأن إسلامه كان بعد نزول المائدة .
126 - حدثنا قال : حدثنا عبد الملك بن مروان ، عن أبو معاوية ، عن الأعمش ، إبراهيم ، همام ، قال : بال ثم توضأ ومسح على خفيه ، وقيل له : أتفعل هذا وقد بلت ؟ ، فقال : نعم ، رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " بال ، ثم توضأ ومسح على خفيه " . جرير بن عبد الله البجلي ، عن [ ص: 111 ]
قال قال الأعمش ، إبراهيم : كان يعجبهم هذا الحديث لأن إسلام جرير كان بعد نزول المائدة .
127 - حدثنا فهد ، قال : حدثنا نعيم ، قال : حدثنا بكر بن عامر البجلي ، عن أبي زرعة ، قال : " بال جرير ، ومسح على الخفين فعاب عليه قوم ، وقالوا : إن هذا كان قبل المائدة ، فقال : ما أسلمت إلا بعد نزول المائدة ، وما رأيت نبي الله - صلى الله عليه وسلم - إلا بعد ما أنزلت " .
ولما كان في بعد نزول المائدة من الاختلاف ما قد ذكرنا كان الذين رووا أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مسح بعد نزولها أولى ، لأن معهم الإخبار بالوقوف على مسحه بعد نزولها ، والذين رووا أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يمسح بعد نزولها نفوا ما قد أثبت الأولون ، وأصحاب الإثبات في هذا أولى من أصحاب النفي . مسح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على خفيه
ألا ترى أن الرجل لو جعل عبده حرا إن دخل زيد هذه الدار ، ثم مات زيد وقد علم أنه قد دخلها ولم يدر أدخلها قبل اليمين أم بعدها ؟ فشهد شاهدان أنه دخلها قبل اليمين ، وشهد آخران أنه دخلها بعد اليمين ، أن الشاهدين على إثبات الدخول بعد اليمين أولى من الشاهدين على نفيه .
وكذلك المخبرون عن المسح بعد نزول المائدة أولى من المخبرين بنفيه بعد نزولها ، وتركنا أن ينقضي ما في هذا الباب من الآثار في المسح على الخفين بالتوقيت المذكور فيه ، والآثار بالمسح الذي لا توقيت فيه ، لأنا قد استقصينا ذلك في هذا الباب في كتابنا المؤلف في شرح معاني الآثار وأتينا هاهنا منه بهذه الجملة التي تكفي منه ، وتركنا ما سواها .
وحجة أخرى أنهم لن يختلفوا أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد مسح على خفيه قبل نزول المائدة ، وأن ذلك مما قد كان جعل طهارة القدمين إذا كانتا في الخفين ، كما جعل غسلهما إذا كانتا باديتين طهارة لهما [ ص: 112 ] ثم اختلفوا في ارتفاع ذلك وفي نسخه بنزول المائدة ، فقال كل فريق من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما قد حكيناه عنه فيه ، فكان الواجب في ذلك أن يكون الذي علينا في ذلك هو لزوم ما قد أجمع على وجوبه حتى يعلم نسخه ، ولم يحك عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال للناس بعد ما أنزلت المائدة ، أنها قد نسخت المسح على الخفين ، ولا في ظاهرها ما قد دل على ذلك ، لأن القدمين قد يجوز أن يكون ما أمر به فيهما في سورة المائدة إذا كانتا باديتين ، لا إذا كانتا معنيتين في الخفين ، كما قال - عز وجل - : ( عبد الله بن عباس والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما ) فلم يكن ذلك على أيدي كل السراق ، وإنما كان ذلك على خاص منها على ما بينته السنة في ذلك ، وكما قال - عز وجل - : ( الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة ) ، فلم يكن ذلك على كل الزناة ، وإنما كان على الزناة الذين بينت فيهم السنة ما بينت .