قال أبو عبد الله : وذلك موجود في الفطر أن من دام إحسانه إليك ، وكثرت أياديه عندك ، وقلت مكافأتك له ، غضضت طرفك إذا رأيته حياء منه ، فكيف بمن خلقك ، ولم تك شيئا ، ولم يزل محسنا إليك منذ خلقك ، يتبغض إليه العبد ، ويتهتك فيما بينه وبينه ، وهو يستر عليه ، حتى كأنه لا ذنب له ، لم يتهاون بنظره ، وإن تغير العبد ، أو لم يتغير ، فنعم الله تعالى عليه دائمة ، وإحسانه إليه متواصل ، وذلك كله مع تضييع الشكر ، بل ما رضي بالتقصير عن الشكر ، حتى نال معاصي ربه بنعمه ، واستعان على مخالفته بأياديه ، فإذا ذكر المستحي دوام النعم ، وتضييع الشكر ، وكثرة الإساءة مع فقره إلى الله تعالى ، وإحسان [ ص: 845 ] الله تعالى إليه ، هاج منه الحياء ، والحصر من ربه عز وجل حتى كاد أن يذوب حياء منه ، فإذا هاج ذلك منه ، استعظم كل نعمة ، وإن صغرت ، إذ عرف تضييعه للشكر ، فيستكثر ويستعظم أقل النعم له ، إذ علم أنه أهل أن يزال عنه النعم ، فكيف بأن يدام عليه ، ويزداد فيها ، لأن من أسأت إليه ، فعلمت أنك قد استأهلت منه الغضب ، فألطفك لكلمة استكثرتها ، لعلمك بما قد استوجبت منه من الغضب ، والعقوبة ، فإن سأل الله تعالى دوام النعم ، والزيادة فيها ، سأله بحياء وانكسار قلب ، لولا معرفته بجوده ، وكرمه ، وتفضله ما سأله ، فيكاد أن ينقطع عن الدعاء ، حياء من الله تعالى ، ثم يذكر تفضله ، وجوده ، وكرمه ، فيدعوه بقلب منكسر من الحياء ، خوفا أن لا يجاب . وأما ما يهيج من الحياء عند ذكر دوام النعم ، وكثرة الإحسان ، وتضييع الشكر ،
ويبعثه ذلك على الشكر لما لزم قلبه الحياء من تضييع الشكر ، فإذا لزمت هذه الذكور قلبه ، وأهجن الحياء منه ، فاستعملهن كما وصفت لك ، فقد استحيى من الله تعالى بحقيقة الحياء ، وإن كان لا غاية لحقيقة الحياء ، إذ المستحيى منه لا غاية لعظمته عند المستحيي منه ، ألا [ ص: 846 ] ترى إلى :