في تحقيق معنى المندوب وما يتعلق به من المسائل
في اللغة مأخوذ من الندب وهو الدعاء إلى أمر مهم ، ومنه قول الشاعر : والمندوب
(
لا يسألون أخاهم حين يندبهم في النائبات على ما قال برهانا
) .وأما في الشرع فقد قيل : ( هو ما فعله خير من تركه ) ويبطل بالأكل قبل ورود الشرع ، فإنه خير من تركه لما فيه من اللذة واستبقاء المهجة وليس مندوبا .
وقيل : ( هو ما يمدح على فعله ولا يذم على تركه ) ويبطل بأفعال الله تعالى فإنها كذلك وليست مندوبة .
فالواجب أن يقال : ( هو المطلوب فعله شرعا من غير ذم على تركه مطلقا ) ، ( فالمطلوب فعله ) احتراز عن الحرام والمكروه والمباح وغيره من الأحكام الثابتة بخطاب الوضع والأخبار ، و ( نفي الذم ) [1] احتراز عن الواجب المخير والموسع في أول الوقت [2] وإذا عرف معنى المندوب ففيه مسألتان :
[ ص: 120 ] المسألة الأولى
ذهب القاضي أبو بكر وجماعة من أصحابنا إلى أن ، خلافا المندوب مأمور به للكرخي وأبي بكر الرازي من أصحاب أبي حنيفة .
احتج المثبتون بأن فعل المندوب يسمى طاعة بالاتفاق ، وليس ذلك لذات الفعل المندوب إليه وخصوص نفسه ، وإلا كان طاعة بتقدير ورود النهي عنه ولا لصفة من الصفات التي يشاركه فيها غيره من الحوادث وإلا كان كل حادث طاعة ، ولا لكونه مرادا لله تعالى وإلا كان كل مراد الوقوع طاعة وليس كذلك ، ولا لكونه مثابا عليه فإنه لا يخرج عن كونه طاعة وإن لم يثب عليه ، ولا لكونه موعودا بالثواب عليه ; لأنه لو ورد فيه وعد لتحقق لاستحالة الخلف في خبر الشارع ، والثواب غير لازم له بالإجماع ، والأصل عدم ما سوى ذلك ، فتعين أن يكون طاعة لما فيه من امتثال الأمر ؛ فإن امتثال الأمر يسمى طاعة ولهذا يقال : فلان مطاع الأمر ، ومنه قول الشاعر :
(
ولو كنت ذا أمر مطاع لما بدا توان من المأمور في كل أمركا
كيف وقد شاع وذاع إطلاق أهل الأدب قولهم بانقسام الأمر إلى أمر إيجاب وأمر ندب .
فإن قيل : أمكن أن يكون طاعة لكونه مقتض ومطلوبا ممن له الطلب والاقتضاء ، ولا يلزم أن يكون ذلك لكونه مأمورا ، ثم لو كان فعله طاعة لكونه مأمورا لكان تركه معصية لكونه مأمورا ، ولذلك يقال : أمر فعصى ، ومنه قول الشاعر :
(
أمرتك أمرا جازما فعصيتني
) .وليس كذلك بالإجماع .
ويدل على أنه غير مأمور قوله عليه السلام : " " ، وقوله عليه السلام لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة وقد عتقت تحت عبد : " لبريرة " نفى الأمر في الصورتين مع أن الفعل فيهما مندوب ، فدل على أن المندوب ليس مأمورا . لو راجعتيه . فقالت : بأمرك يا رسول الله ؟ فقال : لا إنما أنا شافع
[ ص: 121 ] قلنا : أما الاقتضاء والطلب فهو الأمر عندنا على ما يأتي ، فتسليمه تسليم لمحل النزاع .
قولهم : لا يسمى تاركه عاصيا . قلنا : لأن العصيان اسم ذم مختص بمخالفة أمر الإيجاب ولا بمخالفة مطلق أمر ، ويجب أن يكون كذلك جمعا بين ما ذكروه من الإطلاق وما ذكرناه من الدليل ، ولمثل هذا يجب حمل الحديثين على أمر الإيجاب دون الندب . ويخص الحديث الأول أنه قيده بالمشقة ، وهي لا تكون في غير أمر الإيجاب ، وإذا ثبت كونه مأمورا فهو حسن بجميع الاعتبارات السابق ذكرها في مسألة التحسين والتقبيح ، وهل هو داخل في مسمى الواجب ؟ فالكلام فيه على ما سيأتي في الجائز نفيا وإثباتا .