[ ص: 97 ] الفصل الأول
في وما يتعلق به من المسائل حقيقة الوجوب
أما حقيقة الوجوب ، فاعلم أن الوجوب في اللغة قد يطلق بمعنى السقوط ومنه يقال : وجبت الشمس : إذا سقطت ، ووجب الحائط : إذا سقط .
وقد يطلق بمعنى الثبوت والاستقرار ، ومنه قوله عليه السلام : " " إذا وجب المريض فلا تبكين باكية [1] أي استقر وزال عنه التزلزل والاضطراب .
وأما في العرف الشرعي فقد قيل : " هو ما يستحق تاركه العقاب على تركه " وهو إن أريد ( بالاستحقاق ) ما يستدعي مستحقا عليه فباطل لعدم تحقق ذلك بالنسبة إلى الله تعالى ، على ما بيناه في علم الكلام ، وبالنسبة إلى أحد من المخلوقين بالإجماع .
وإن أريد به أنه لو عوقب لكان ذلك ملائما لنظر الشارع فلا بأس به .
وقيل : هو ( ما توعد بالعقاب على تركه ) وهو باطل ; لأن التوعد بالعقاب على الترك خبر ، ولو ورد لتحقق العقاب بتقدير الترك لاستحالة الخلف في خبر الصادق [2] ، وإن كان ذلك في حق غيره يعد كرما وفضيلة لما يلزمه من المصلحة الراجحة ، وليس كذلك لجواز العفو عنه .
وقيل : هو ( الذي يخاف العقاب على تركه ) ويبطل بالمشكوك في وجوبه ، كيف وإن هذه الحدود ليست حدا للحكم الشرعي ، وهو الوجوب بل للفعل الذي هو متعلق الوجوب .
[ ص: 98 ] والحق في ذلك أن يقال : الوجوب الشرعي عبارة عن خطاب الشارع بما ينتهض تركه سببا للذم شرعا في حالة ما ، فالقيد الأول احتراز عن خطاب غير الشارع ، والثاني احتراز عن بقية الأحكام ، والثالث [3] احتراز عن ترك الواجب الموسع أول الوقت ، فإنه سبب للذم بتقدير إخلاء جميع الوقت عنه ، وإخلاء أول الوقت من غير عزم على الفعل بعده ، وعن ترك الواجب المخير ، فإنه سبب للذم بتقدير ترك البدل ، وليس سببا له بتقدير فعل البدل .
وعلى هذا إن قلنا : إن الأذان وصلاة العيد فرض كفاية واتفق أهل بلدة على تركه ، قوتلوا . وإن قلنا : إنه سنة ، فلا .
وبالجملة فلا بد في الوجوب من ترجيح الفعل على الترك بما يتعلق به من الذم أو الثواب الخاص به ، فإنه لا تحقق للوجوب مع تساوي طرفي الفعل والترك في الغرض ، وربما أشار القاضي أبو بكر إلى خلافه .
وإذا عرف معنى الوجوب الشرعي فلا بد من الإشارة إلى ما يتعلق به من المسائل ، وهي سبع :
المسألة الأولى
هل ؟ الفرض غير الواجب ، أو هو هو
أما في اللغة ، فالواجب هو الساقط والثابت كما سبق تعريفه .
وأما الفرض ، فقد يطلق في اللغة بمعنى التقدير ، ومنه قولهم : فرضتا القوس ؛ للحزتين اللتين في سيتيه موضع الوتر ، وفرضة النهر وهو موضع اجتماع السفن ، ومنه قولهم : فرض الحاكم النفقة ، أي قدرها .
وقد يطلق بمعنى الإنزال ، ومنه قوله تعالى : ( إن الذي فرض عليك القرآن ) أي أنزل .
[ ص: 99 ] وقد يطلق بمعنى الحل ، ومنه قوله تعالى : ( ما كان على النبي من حرج فيما فرض الله له ) أي أحل له .
[4] وأما في الشرع ، فلا فرق بين الفرض والواجب عند أصحابنا ; إذ الواجب في الشرع على ما ذكرناه عبارة عن خطاب الشارع بما ينتهض تركه سببا للذم شرعا في حالة ما [5] ، وهذا المعنى بعينه متحقق في الفرض الشرعي .
وخص أصحاب أبي حنيفة اسم الفرض بما كان من ذلك مقطوعا به ، واسم الواجب بما كان مظنونا ، مصيرا منهم إلى أن الفرض هو التقدير ، والمظنون لم يعلم كونه مقدرا علينا بخلاف المقطوع ، فلذلك خص المقطوع باسم الفرض دون المظنون ، والأشبه ما ذكره أصحابنا من حيث إن الاختلاف في طريق إثبات الحكم حتى يكون هذا معلوما وهذا مظنونا ، غير موجب لاختلاف ما ثبت به .
ولهذا فإن اختلاف طرق الواجبات في الظهور والخفاء والقوة والضعف ، بحيث إن المكلف يقتل بترك البعض منها دون البعض ، لا يوجب اختلاف الواجب في حقيقته من حيث هو واجب ، وكذا اختلاف طرق النوافل غير موجب لاختلاف حقائقها ، وكذلك اختلاف طرق الحرام بالقطع والظن غير موجب لاختلافه في نفسه من حيث هو حرام ، كيف وإن الشارع قد أطلق اسم الفرض على الواجب في قوله تعالى : ( فمن فرض فيهن الحج ) أي أوجب ، والأصل أن يكون مشعرا به حقيقة وأن لا يكون له مدلول سواه نفيا للتجوز والاشتراك عن اللفظ ، والذي يؤيد إخراج قيد القطع عن مفهوم الفرض إجماع الأمة على إطلاق اسم الفرض على ما أدى من الصلوات المختلف في صحتها بين الأئمة بقولهم : أد [6] فرض الله تعالى ، والأصل في الإطلاق الحقيقة ، وما ذكره الخصوم في تخصيص اسم الفرض المقطوع به فمن باب التحكم حيث إن الفرض في اللغة هو التقدير مطلقا ، كان مقطوعا به أو مظنونا ، فتخصيص ذلك بأحد القسمين دون الآخر بغير دليل لا يكون مقبولا ، وبالجملة فالمسألة لفظية .