[ ص: 79 ] القسم الثالث
في المبادئ الفقهية والأحكام الشرعية
اعلم أن الحكم الشرعي يستدعي حاكما ومحكوما فيه ومحكوما عليه ، فلنفرض في كل واحد أصلا ، وهي أربعة أصول :
الأصل الأول
في الحاكم
اعلم أنه لا حاكم سوى الله تعالى ، ولا حكم إلا ما حكم به ، ويتفرع عليه أن العقل لا يحسن ولا يقبح ولا يوجب شكر المنعم ، وأنه لا حكم قبل ورود الشرع ، ولنرسم في كل واحد مسألة .
المسألة الأولى
مذهب أصحابنا وأكثر العقلاء أن ، وأن العقل لا يحسن ولا يقبح ، وإنما إطلاق اسم الحسن والقبح عندهم باعتبارات ثلاثة إضافية غير حقيقية . الأفعال لا توصف بالحسن والقبح لذواتها
أولها : إطلاق اسم الحسن على ما وافق الغرض ، والقبيح على ما خالفه .
وليس ذلك ذاتيا لاختلافه وتبدله بالنسبة إلى اختلاف الأغراض ، بخلاف اتصاف المحل بالسواد والبياض .
وثانيها : إطلاق اسم الحسن على ما أمر الشارع بالثناء على فاعله ، ويدخل فيه أفعال الله تعالى والواجبات والمندوبات دون المباحات . وإطلاق اسم القبح على ما أمر الشارع بذم فاعله ، ويدخل فيه الحرام دون المكروه والمباح ، وذلك أيضا مما يختلف باختلاف ورود أمر الشارع في الأفعال .
[ ص: 80 ] وثالثها : إطلاق اسم الحسن على ما لفاعله مع العلم به والقدرة عليه أن يفعله ، بمعنى نفي الحرج عنه في فعله ، وهو أعم من الاعتبار الأول [1] لدخول المباح فيه ، والقبيح في مقابلته ، ولا يخفى أن ذلك أيضا مما يختلف باختلاف الأحوال فلا يكون ذاتيا ، وعلى هذا فما كان من أفعال الله تعالى بعد ورود الشرع فحسن بالاعتبار الثاني والثالث ، وقبله بالاعتبار الثالث ، وما كان من أفعال العقلاء قبل ورود الشرع فحسنه وقبيحه بالاعتبار الأول والثالث ، وبعده بالاعتبارات الثلاثة .
[2] وذهب المعتزلة والكرامية والخوارج والبراهمة [3] والثنوية [4] وغيرهم إلى أن الأفعال منقسمة إلى حسنة وقبيحة لذواتها ، لكن منها ما يدرك حسنه وقبحه بضرورة العقل كحسن الإيمان وقبح الكفران ، أو بنظره كحسن الصدق المضر وقبح الكذب النافع ، أو بالسمع كحسن العبادات ، لكن اختلفوا [ ص: 81 ] فزعمت الأوائل من المعتزلة أن الحسن والقبيح غير مختص بصفة موجبة لحسنه وقبحه .
ومنهم من أوجب ذلك كالجبائية .
ومنهم من فصل وأوجب ذلك في القبيح دون الحسن ، ونشأ بينهم بسبب هذا الاختلاف اختلاف في العبارات الدالة على معنى الحسن والقبح ، أومأنا إليها وإلى مناقضتهم فيها في علم الكلام .
وقد احتج أصحابنا بحجج :
الأولى : أنه لو كان الكذب قبيحا لذاته للزم منه أنه إذا قال : إن بقيت ساعة أخرى كذبت ؛ أن يكون الحسن منه في الساعة الأخرى الصدق أو الكذب ، والأول ممتنع لما يلزمه من كذب الخبر الأول وهو قبيح ، وما لزم منه القبيح فهو قبيح ، فلم يبق غير الثاني وهو المطلوب .
الثانية : لو كان قبح الخبر الكاذب ذاتيا ، فإذا قال القائل : زيد في الدار ، ولم يكن فيها ، فالمقتضي لقبحه : إما نفس ذلك اللفظ ، وإما عدم المخبر عنه ، وإما مجموع الأمرين ، وإما أمر خارج . الأول : يلزمه قبح ذلك الخبر وإن كان صادقا ، والثاني : يلزمه أن يكون العدم علة للأمر الثبوتي ، والثالث : يلزمه أن يكون العدم جزء علة الأمر الثبوتي ، والكل محال [5] ، وإن كان الرابع فذلك المقتضي الخارج : إما لازم للخبر المفروض ، وإما غير لازم ، فإن كان الأول فإن كان لازما لنفس اللفظ لزم قبحه وإن كان صادقا ، وإن كان لازما لعدم المخبر عنه أو لمجموع الأمرين ، كان العدم مؤثرا في الأمر الثبوتي وهو محال ، وإن كان لازما لأمر خارج عاد التقسيم في ذلك الخارج وهو تسلسل ، وإن لم يكن ذلك المقتضي [ ص: 82 ] الخارج لازما للخبر الكاذب أمكن مفارقته له فلا يكون الخبر الكاذب قبيحا .
[6] الثالثة : لو كان الخبر الكاذب قبيحا لذاته فالمقتضي له لا بد وأن يكون ثبوتيا ضرورة اقتضائه للقبح الثبوتي ، وهو إن كان صفة لمجموع حروف الخبر فهو محال ; لاستحالة اجتماعها في الوجود ، وإن كان صفة لبعضها لزم أن تكون أجزاء الخبر الكاذب كاذبة ; ضرورة كون المقتضي لقبح الخبر الكاذب إنما هو الكذب ، وذلك محال .
[7] الرابعة : أنه لو كان قبح الكذب وصفا حقيقيا لما اختلف باختلاف الأوضاع ، وقد اختلف حيث إن الخبر الكاذب قد يخرج عن كونه كذبا وقبيحا بوضع الواضع له أمرا أو نهيا .
الخامسة : لو كان الكذب قبيحا لذاته لما كان واجبا ولا حسنا عندما إذا استفيد به عصمة دم نبي عن ظالم يقصد قتله .
السادسة : لو كان الظلم قبيحا لكونه ظلما لكان المعلول متقدما على علته ; لأن قبح الظلم الذي هو معلول للظلم متقدم على الظلم ، ولهذا ليس لفاعله أن يفعله وكان القبح مع كونه وصفا ثبوتيا ضرورة اتصاف العدم بنقيضه معللا بما العدم جزء منه ، وذلك لأن مفهوم الظلم أنه إضرار غير مستحق ، ولا استحقاق عدم ، وهو ممتنع .
السابعة : أن أفعال العبد غير مختارة له ، وما يكون كذلك لا يكون حسنا ولا قبيحا لذاته إجماعا ، وبيان ( غير مختار ) أن فعله إن كان لازما له لا يسعه تركه ، فهو مضطر إليه لا مختار له وإن جاز تركه ، فإن افتقر في فعله إلى مرجح عاد التقسيم ، وهو تسلسل ممتنع وإلا فهو اتفاقي لا اختياري .
[ ص: 83 ] وهذه الحجج ضعيفة
أما الأولى : فلأنه أمكن أن يقال بأن صدقه في الساعة الأخرى حسن [8] ، ولا يلزم من ملازمة القبيح له قبحه وإن كان قبيحا من جهة استلزامه للقبيح ، فلا يمتنع الحكم عليه بالحسن إلى ما اختص به من الوجوه والاعتبارات الموجبة للحسن والقبح ، كما هو مذهب الجبائية . وإن قدر امتناع ذلك فلا يمتنع الحكم بقبح صدقه لما ذكروه وقبح كذبه لكونه كذبا .
وأما الثانية : فلأنه لا امتناع من القول بقبح الخبر مشروطا بعدم زيد في الدار ، والشرط غير مؤثر .
وأما الثالثة : فلما يلزمها من امتناع اتصاف الخبر بكونه كاذبا وهو محال .
وأما الرابعة : فلأنه لا مانع من أن يكون قبح الخبر الكاذب مشروطا بالوضع وعدم مطابقته للمخبر عنه ، مع علم المخبر به كما كان ذلك مشروطا في كونه كذبا .
وأما الخامسة : فلأن الكذب في الصورة المفروضة غير متعين لخلاص النبي لإمكان الإتيان بصورة الخبر من غير قصد له ، أو مع التعريض وقصد الإخبار عن الغير ، وإذا لم يكن متعينا له كان قبيحا ، وإن قدر تعيينه فالحسن والواجب ما لازمه من تخليص النبي لا نفس الكذب ، واللازم غير الملزوم وغايته أنه لا يأثم به مع قبحه ولا يحرم شرعا لترجح المانع عليه .
وأما السادسة : فلأنه أمكن منع تقدم قبح الظلم عليه ضرورة كونه صفة له ، بل المتقدم إنما هو الحكم على ما سيوجد من الظلم بكونه قبيحا شرعا وعرفا ، وأمكن منع تعليل القبح بالعدم . وعدم الاستحقاق وإن كان لازما للظلم فلا [ ص: 84 ] يلزم أن يكون داخلا في مفهومه ، فأمكن أن يكون الظلم علة القبح بما فيه من الأمر الوجودي ، والعدم شرطه .
وأما السابعة : فلأنه يلزم أن يكون الرب تعالى مضطرا إلى أفعاله غير مختار فيها لتحقق عين ما ذكروه من القسمة في أفعاله ، وهو محال ، ويلزم أيضا منها امتناع الحكم بالحسن والقبح الشرعي على الأفعال ، والجواب يكون مشتركا .
[9] والمعتمد في ذلك أن يقال : لو كان فعل من الأفعال حسنا أو قبيحا لذاته فالمفهوم من كونه قبيحا وحسنا ليس هو نفس ذات الفعل ، وإلا كان من علم حقيقة الفعل عالما بحسنه وقبحه ، وليس كذلك لجواز أن يعلم حقيقة الفعل ويتوقف العلم بحسنه وقبحه على النظر ، كحسن الصدق الضار وقبح الكذب النافع ، وإن كان مفهومه زائدا على مفهوم الفعل الموصوف به فهو صفة وجودية ; لأن نقيضه وهو لا حسن ولا قبح صفة للعدم المحض فكان عدميا ، ويلزم من ذلك كون الحسن والقبح وجوديا وهو قائم بالفعل لكونه صفة له ، ويلزم من ذلك قيام العرض بالعرض وهو محال ; وذلك لأن العرض الذي هو محل العرض لا بد وأن يكون قائما بالجوهر أو بما هو في آخر الأمر قائم بالجوهر ، قطعا للتسلسل الممتنع . وقيام العرض بالجوهر لا معنى له غير وجوده في حيث الجوهر ، تبعا له فيه . وقيام أحد العرضين بالآخر لا معنى له سوى أنه في حيث العرض الذي قيل إنه قائم به ، وحيث ذلك العرض هو حيث الجوهر فهما في حيث الجوهر وقائمان به ، ولا معنى لقيام أحدهما بالآخر ، وإن كان قيام أحدهما بالآخر مشروطا بقيام العرض الآخر به .
فإن قيل : ما ذكرتموه يلزم منه امتناع اتصاف الفعل بكونه ممكنا ومعلوما ومقدورا ومذكورا ، وهو محال . ثم ما ذكرتموه معارض بما يدل على نقيض مدلوله .
وبيانه من جهة الاستدلال والإلزام :
أما الاستدلال فمن وجهين :
[ ص: 85 ] الأول : اتفاق العقلاء على حسن الصدق النافع وقبح الكذب المضر ، وكذلك حسن الإيمان وقبح الكفران وغير ذلك ، مع قطع النظر عن كل حالة تقدر من عرف أو شريعة أو غير ذلك ، فكان ذاتيا والعلم به ضروري .
الثاني : إنا نعلم أن من استوى في تحصيل غرضه الصدق والكذب وقطع النظر في حقه عن الاعتقادات والشرائع وغير ذلك من الأحوال ، فإنه يميل إلى الصدق ويؤثره وليس ذلك إلا لحسنه في نفسه .
وكذلك نعلم أن من رأى شخصا مشرفا على الهلاك وهو قادر على إنقاذه فإنه يميل إليه ، وإن كان بحيث لا يتوقع في مقابلة ذلك حصول غرض دنياوي ولا أخروي ، بل ربما كان يتضرر بالتعب والتعني ، وليس ذلك إلا لحسنه في ذاته .
وأما من جهة الإلزام : فهو أنه لو كان السمع وورود الأمر والنهي هو مدرك الحسن والقبح ; لما فرق العاقل بين من أحسن إليه وأساء ، ولما كان فعل الله حسنا قبل ورود السمع ، ولجاز من الله الأمر بالمعصية والنهي عن الطاعة ، ولجاز إظهار المعجزة على يد الكذاب ، ولامتنع الحكم بقبح الكذب على الله تعالى قبل ورود السمع ، ولكان الوجوب أيضا متوقفا ، ويلزم من ذلك إفحام الرسل من حيث إن النبي إذا بعث وادعى الرسالة ودعا إلى النظر في معجزته ، فللمدعو أن يقول : لا أنظر في معجزتك ما لم يجب علي النظر . ووجوب النظر متوقف على استقرار الشرع في معجزتك وهو دور .
والجواب عن الأول : أن ما ذكروه فأمور تقديرية ، فمفهوم نقائضها سلب التقدير ، والأمور المقدرة ليست من الصفات العرضية ، فلا يلزم منه قيام العرض بالعرض .
[10] فإن قيل مثله في الحسن والقبح ، فقد خرج عن كونه من الصفات الثبوتية للذات وهو المطلوب ، وعن المعارضة الأولى بمنع إجماع العقلاء على الحسن والقبح فيما ذكروه ، فإن من العقلاء من لا يعتقد ذلك ، كبعض الملاحدة [11] ، ونحن أيضا [ ص: 86 ] لا نوافق على قبح إيلام البهائم من غير جرم ولا غرض [12] ، وهو من صور النزاع ، وإن كان ذلك متفقا عليه بين العقلاء فلا يلزم أن يكون العلم به ضروريا ، وإلا لما خالف فيه أكثر العقلاء عادة [13] ، وإن كان ذلك معلوما ضرورة فلا يلزم من [14] أن يكون ذاتيا إلا أن يكون مجردا عن أمر خارج [15] ، وهو غير مسلم على ما يأتي .
وعن المعارضة الثانية : أنه لا يخلو إما أن يقال بالتفاوت بين الصدق والكذب ولو بوجه ، أو لا يقال به . والأول يلزمه إبطال الاستدلال ، والثاني يمنع معه إيثار أحد الأمرين دون الآخر .
وعلى هذا إن كان ميله إلى الإنقاذ لتحقق أمر خارج فالاستدلال باطل ، وإن لم يكن فالميل إلى الإنقاذ لا يكون مسلما ، وإن سلم دلالة ما ذكرتموه في حق الشاهد فلا يلزم مثله في حق الغائب إلا بطرق قياسه على الشاهد ، وهو متعذر لما بيناه في علم الكلام .
ثم كيف يقاس والإجماع منعقد على التفرقة بتقبيح تمكين السيد لعبيده من الفواحش ، مع العلم بهم والقدرة على منعهم دون تقبيح ذلك بالنسبة إلى الله تعالى .
فإن قيل : إنما لم يقبح من الله ذلك لعدم قدرته على منع الخلق من المعاصي ; وذلك لأن ما يقع من العبد من المعصية لا بد وأن يكون وقوعها معلوما للرب ، وإلا كان جاهلا بعواقب الأمور وهو محال ، ومنع الرب تعالى من وقوع ما هو معلوم الوقوع له لا يكون مقدورا كما ذهب إليه النظام .
قلنا : فما قيل فهو بعينه لازم بالنسبة إلى السيد ، وأولى أن لا يكون السيد قيدا على المنع ، ومع ذلك فالفرق واقع .
[ ص: 87 ] والجواب عن الإلزام الأول : أن مفهوم الحسن والقبح بمعنى موافقة الغرض ومخالفته ، وبمعنى ما للفاعل أن يفعله وأن لا يفعله متحقق قبل ورود الشرع ، لا بالمعنى الذاتي .
[16] وعن الثاني : أن فعل الله قبل ورود الشرع حسن ، بمعنى أن له فعله .
وعن الثالث : أنه لا معنى للطاعة عندنا إلا ما ورد الأمر به ، ولا معنى للمعصية إلا ما ورد النهي عنه ، وعلى هذا فلا يمتنع ورود الأمر بما كان منهيا والنهي بما كان مأمورا .
وعن الرابع : أنه إنما يلزم أن لو لم يكن لامتناع إظهار المعجزة على يد الكاذب مدرك سوى القبح الذاتي وليس كذلك ، وبه اندفاع الإلزام الخامس أيضا .
وعن السادس ما سيأتي في المسألة بعدها ، وإذا بطل معنى الحسن والقبح الذاتي لزم منه امتناع وجوب شكر المنعم عقلا ، وامتناع حكم عقلي قبل ورود الشرع ; إذ هما مبنيان على ذلك . غير أن عادة الأصوليين جارية لفرض الكلام في هاتين المسألتين إظهارا لما يختص بكل واحد من الإشكالات والمناقضات .