الأصل الثاني
في مبدأ اللغات وطرق معرفتها
أول ما يجب تقديمه أن ما وضع من الألفاظ الدالة على معانيها هل هو لمناسبة طبيعية بين اللفظ ومعناه أم لا ؟
فذهب أرباب علم التكسير وبعض المعتزلة إلى ذلك ; مصيرا منهم إلى أنه لو لم يكن بين اللفظ ومعناه مناسبة طبيعية لما كان اختصاص ذلك المعنى بذلك اللفظ أولى من غيره . ولا وجه له ، فإنا نعلم أن الواضع في ابتداء الوضع لو وضع لفظ الوجود على العدم والعدم على الوجود واسم كل ضد على مقابله - لما كان ممتنعا ، كيف وقد وضع ذلك كما في اسم الجون والقرء ونحوه ، والاسم الواحد لا يكون مناسبا بطبعه لشيء ولعدمه [1] ، وحيث خصص الواضع بعض الألفاظ ببعض المدلولات ، إنما كان ذلك نظرا إلى الإرادة المخصصة ، كان الواضع هو الله تعالى أو المخلوق إما لغرض أو لا لغرض ، وإذا بطلت المناسبة الطبيعية وظهر أن مستند تخصيص بعض الألفاظ ببعض المعاني إنما هو الوضع الاختياري ، [ ص: 74 ] فقد اختلف الأصوليون فيه :
فذهب الأشعري وأهل الظاهر وجماعة من الفقهاء إلى أن الواضع هو الله تعالى ، ووضعه متلقى لنا من جهة التوقيف الإلهي ، إما بالوحي ، أو بأن يخلق الله الأصوات والحروف ويسمعها لواحد أو لجماعة ويخلق له أو لهم العلم الضروري بأنها قصدت للدلالة على المعاني ؛ محتجين على ذلك بآيات :
منها قوله تعالى : ( وعلم آدم الأسماء كلها ثم عرضهم على الملائكة فقال أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين قالوا سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا ) دل على أن آدم والملائكة لا يعلمون إلا بتعليم الله تعالى .
ومنها قوله تعالى : ( ما فرطنا في الكتاب من شيء ) ، وقوله تعالى : ( تبيانا لكل شيء ) وقوله تعالى : ( اقرأ وربك الأكرم الذي علم بالقلم علم الإنسان ما لم يعلم ) واللغات داخلة في هذه المعلومات ، وقوله تعالى : ( إن هي إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان ) ذمهم على تسمية بعض الأشياء من غير توقيف فدل على أن ما عداها توقيف ، وقوله تعالى : ( ومن آياته خلق السماوات والأرض واختلاف ألسنتكم ) والمراد به اللغات لا نفس اختلاف هيئات الجوارح من الألسنة ; لأن اختلاف اللغات أبلغ في مقصود الآية ، فكان أولى بالحمل عليه .
وذهبت البهشمية [2] وجماعة من المتكلمين إلى أن ذلك من وضع أرباب اللغات واصطلاحهم ، وأن واحدا أو جماعة انبعثت داعيته أو دواعيهم إلى وضع هذه الألفاظ بإزاء معانيها ، ثم حصل تعريف الباقين بالإشارة والتكرار كما يفعل الوالدان بالولد الرضيع ، وكما يعرف الأخرس ما في ضميره بالإشارة والتكرار مرة بعد أخرى ؛ محتجين على ذلك بقوله تعالى : ( وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ) وهذا دليل على تقدم اللغة على البعثة والتوقيف .
وذهب الأستاذ إلى أن القدر الذي يدعو به الإنسان غيره إلى التواضع بالتوقيف ، وإلا فلو كان بالاصطلاح فالاصطلاح عليه [ ص: 75 ] متوقف على ما يدعو به الإنسان غيره إلى الاصطلاح على ذلك الأمر فإن كان بالاصطلاح لزم التسلسل وهو ممتنع ، فلم يبق غير التوقيف ، وجوز حصول ما عدا ذلك بكل واحد من الطريقين . أبو إسحاق الإسفرائيني
وذهب القاضي أبو بكر وغيره من أهل التحقيق إلى أن كل واحد من هذه المذاهب ممكن بحيث لو فرض وقوعه لم يلزم عنه محال لذاته ، وأما وقوع البعض دون البعض فليس عليه دليل قاطع ، والظنون متعارضة يمتنع معها المصير إلى التعيين .
هذا ما قيل ، والحق أن يقال : إن كان المطلوب في هذه المسألة يقين الوقوع لبعض هذه المذاهب . فالحق ما قاله القاضي أبو بكر ; إذ لا يقين من شيء منها على ما يأتي تحقيقه .
وإن كان المقصود إنما هو الظن ، وهو الحق فالحق ما صار إليه الأشعري لما قيل من النصوص لظهورها في المطلوب .
فإن قيل : لا نسلم ظهور النصوص المذكورة في المطلوب .
أما قوله تعالى : ( وعلم آدم الأسماء كلها ) فالمراد بالتعليم إنما هو إلهامه وبعث داعيته على الوضع ، وسمي بذلك معلما [3] لكونه الهادي إليه ، لا بمعنى أنه أفهمه ذلك بالخطاب على ما قال تعالى في حق داود : ( وعلمناه صنعة لبوس لكم ) معناه ألهمناه ذلك ، وقوله تعالى في حق سليمان : ( ففهمناها سليمان ) أي ألهمناه .
سلمنا أن المراد به الإفهام بالخطاب والتوقيف ، ولكن أراد به كل الأسماء مطلقا ، أو الأسماء التي كانت موجودة في زمانه ، الأول ممنوع والثاني مسلم .
سلمنا أنه أراد به جميع الأسماء ، غير أن ذلك لا يدل على أن علم آدم بها كان توقيفيا ، ولا يلزم أن يكون أصلها بالتوقيف لجواز أن يكون من مصطلح خلق سابق على آدم ، والباري تعالى علمه ما اصطلح عليه غيره .
سلمنا أن جميع الأسماء المعلومة لآدم بالتوقيف له ، ولكنه يحتمل أنه أنسيها ، ولم [ ص: 76 ] يوقف عليها من بعده ، واصطلح أولاده من بعده على هذه اللغات . والكلام إنما هو في هذه اللغات .
وأما قول الملائكة : ( لا علم لنا إلا ما علمتنا ) فلا يدل على أن أصل اللغات التوقيف لما عرف في حق آدم .
وقوله تعالى : ( ما فرطنا في الكتاب من شيء ) فالمراد به أن ما ورد في الكتاب لا تفريط فيه ، وإن كان المراد به أنه بين فيه كل شيء ، فلا منافاة بينه وبين كونه معرفا للغات من تقدم .
وعلى هذا يخرج الجواب عن قوله تعالى : ( تبيانا لكل شيء ) ، وعن قوله : ( علم الإنسان ما لم يعلم ) .
وأما آية الذم فالذم فيها إنما كان على إطلاقهم أسماء الأصنام مع اعتقادهم كونها آلهة .
وأما آية اختلاف الألسنة ، فهي غير محمولة على نفس الجارحة بالإجماع ، فلا بد من التأويل .
وليس تأويلها بالحمل على اللغات أولى من تأويلها بالحمل على الإقدار على اللغات ، كيف وأن التوقيف يتوقف على معرفة كون تلك الألفاظ دالة على تلك المعاني ، وذلك لا يعرف إلا بأمر خارج عن تلك الألفاظ ، والكلام فيه إن كان توقيفيا كالكلام في الأول وهو تسلسل ممتنع ، فلم يبق غير الاصطلاح .
ثم ما ذكرتموه معارض بقوله تعالى : ( وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ) وذلك يدل على سبق اللغات على البعثة .
والجواب : قوله : المراد من تعليم آدم إلهامه بالوضع والاصطلاح مع نفسه ، وهو خلاف الظاهر من إطلاق لفظ التعليم ، ولهذا فإن من اخترع أمرا واصطلح عليه مع نفسه يصح أن يقال : إنه ما علمه أحد ذلك ، ولو كان إطلاق التعليم بمعنى الإلهام بما يفعله الإنسان مع نفسه حقيقة لما صح نفيه ، وحيث صح نفيه دل [ ص: 77 ] على كونه مجازا ، والأصل في الإطلاق الحقيقة ، ولا يلزم من التأويل فيما ذكروه من التعليم في حق داود وسليمان التأويل فيما نحن فيه ، إلا أن الاشتراك [4] في دليل التأويل ، والأصل عدمه .
وقولهم : أراد به الأسماء الموجودة في زمانه ، إنما يصح أن لو لم يكن جميع الأسماء موجودة في زمانه ، وهو غير مسلم ، بل الباري تعالى علمه كل ما يمكن التخاطب به ، ويجب الحمل عليه عملا بعموم اللفظ .
قولهم : من الجائز أن يكون جميع الأسماء من مصطلح من كان قبل آدم .
قلنا : وإن كان ذلك محتملا ، إلا أن الأصل عدمه ، فمن ادعاه يحتاج إلى دليل ، وبه يبطل أنه يحتمل أنه أنسيها ; إذ الأصل عدم النسيان وبقاء ما كان على ما كان .
وعلى هذا فقد خرج الجواب عما ذكروه من تأويل قول الملائكة : ( لا علم لنا إلا ما علمتنا ) إذ هو مبني على ما قيل من التأويل في حق آدم ، وقد عرف جوابه .
قولهم : المراد من قوله تعالى : ( ما فرطنا في الكتاب من شيء ) أنه لا تفريط فيما في الكتاب ؛ ليس كذلك ، فإن ذلك معلوم لكل عاقل قطعا ، فحمل اللفظ عليه لا يكون مفيدا .
قولهم : لا منافاة بينه وبين كونه معرفا للغات من تقدم ، فقد سبق جوابه ، وبه يخرج الجواب عما ذكروه على قوله تعالى : ( تبيانا لكل شيء ) ، وعن قوله : ( علم الإنسان ما لم يعلم ) .
قولهم في آية الذم : إنما ذمهم على اعتقادهم كون الأصنام آلهة ، فهو خلاف الظاهر من إضافة الذم إلى التسمية ، ولا يقبل من غير دليل .
[5] [ ص: 78 ] وما ذكروه على الآية الأخيرة ، فلا يخفى أن الترجيح بحمل اللفظ على اختلاف اللغات دون حمله على الإقدار على اللغات أقل في الإضمار ; إذ هو يفتقر إلى إضمار اللغات لا غير ، وما ذكروه يفتقر إلى إضمار القدرة على اللغات فلا يصار إليه .
قولهم في المعنى أنه يفضي إلى التسلسل ، ليس كذلك ، فإنه لا مانع أن يخلق الله تعالى العبارات ، ويخلق لمن يسمعها العلم الضروري بأن واضعا وضعها لتلك المعاني كما سبق .
ثم ما ذكروه لازم عليهم في القول بالاصطلاح فإن ما يدعى به إلى الوضع والاصطلاح لا بد وأن يكون معلوما ، فإن كان معلوما بالاصطلاح لزم التسلسل وهو ممتنع ، فلم يبق غير التوقيف .
وما ذكروه من المعارضة بالآية الأخيرة ، فإنما يلزم أن لو كان طريق التوقيف منحصرا في الرسالة ، وليس كذلك ، بل جاز أن يكون أصل التوقيف معلوما إما بالوحي من غير واسطة ، وإما بخلق اللغات وخلق العلم الضروري للسامعين بأن واضعا وضعها لتلك المعاني على ما سبق .
وأما طرق معرفتها لنا ، فاعلم أن ما كان منها معلوما بحيث لا يتشكك فيه مع التشكيك كعلمنا بتسمية الجوهر جوهرا والعرض عرضا ونحوه من الأسامي ، فنعلم أن مدرك ذلك إنما هو التواتر القاطع ، ولم يكن معلوما لنا ولا تواتر فيه ، فطريق تحصيل الظن به إنما هو أخبار الآحاد ، ولعل الأكثر إنما هو الأول .