[ ص: 65 ] البحث الرابع : في المحكوم عليه وهو المكلف
اعلم أنه ، بمعنى تصوره ، بأن يفهم من الخطاب القدر الذي يتوقف عليه الامتثال ، لا بمعنى التصديق به ، وإلا لزم الدور ، ولزم عدم تكليف الكفار لعدم حصول التصديق لهم . يشترط في صحة التكليف بالشرعيات فهم المكلف لما كلف به
واستدلوا على اشتراط الفهم بالمعنى الأول بأنه لو لم يشترط لزم المحال ; لأن التكليف استدعاء حصول الفعل على قصد الامتثال ، وهو محال عادة وشرعا ممن لا شعور له بالأمر .
وأيضا يلزم تكليف البهائم ; إذ لا مانع من تكليفها إلا عدم الفهم ، وقد فرض أنه غير مانع في صورة النزاع ، وقد اتفق المحققون على كون الفهم بالمعنى المذكور شرطا لصحة التكليف ، ولم يخالف في ذلك إلا بعض من قال بتكليف ما لا يطاق ، وقد تقدم بيان فساد قولهم .
فتقرر بهذا أن ، وكذلك المجنون غير مكلف ; لأنهما لا يفهمان خطاب التكليف على الوجه المعتبر . الصبي الذي لم يميز
وأما لزوم أرش جنايتهما ونحو ذلك ، فمن أحكام الوضع ، لا من أحكام التكليف .
وأما الصبي المميز فهو وإن كان يمكنه تمييز بعض الأشياء لكنه تمييز ناقص بالنسبة إلى تمييز المكلفين ، وأيضا ورد الدليل برفع التكليف قبل البلوغ ومن ذلك حديث . وهو وإن كان في طرقه مقال لكنه باعتبار كثرة طرقه من قسم الحسن ، وباعتبار تلقي الأمة له بالقبول ، لكونهم بين عامل به ومؤول له صار دليلا قطعيا ، ويؤيده حديث رفع القلم عن [ ص: 66 ] ثلاثة من اخضر مئزره فاقتلوه وأحاديث ، كما ثبت عنه صلى الله عليه وآله وسلم في وصاياه لأمرائه عند غزوهم للكفار ، وأحاديث النهي عن قتل الصبيان حتى يبلغوا أنه صلى الله عليه وآله وسلم كان لا يأذن في القتال إلا لمن بلغ سن التكليف .
والأدلة في هذا الباب كثيرة .
ولم يأت من خالف في ذلك بشيء يصلح لإيراده كقولهم : إنه قد صح طلاق السكران ، ولزمه أرش جنايته ، وقيمة ما أتلفه .
وهذا استدلال ساقط ; لخروجه عن محل النزاع في أحكام التكاليف ، لا [ ص: 67 ] في أحكام الوضع ، ومثل هذا من أحكام الوضع .
وأما استدلالهم بقوله تعالى : لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون حيث قالوا : إنه أمر لمن لا يعلم ما يقول ، ومن لا يعلم ما يقول لا يفهم ما يقال له ، فقد كلف من لا يفهم التكليف .
ورد : بأنه نهي عن السكر عند إرادة الصلاة ، فالنهي متوجه إلى القيد .
ورد أيضا بغير هذا مما لا حاجة إلى التطويل بذكره .
ووقع الخلاف بين الأشعرية والمعتزلة : هل المعدوم مكلف أم لا ؟ فذهب الأولون إلى الأول والآخرون إلى الآخر .
وليس مراد الأولين بتكليف المعدوم : أن الفعل أو الفهم مطلوبان منه حال عدمه ; فإن بطلان هذا معلوم بالضرورة ، فلا يرد عليهم ما أورده الآخرون من أنه إذا امتنع تكليف النائم امتنع تكليف المعدوم بطريق الأولى ، بل مرادهم التعلق العقلي ، أي توجه الحكم في الأزل إلى من علم الله وجوده مستجمعا شرائط التكليف . والغافل
واحتجوا بأنه لو لم يتعلق التكليف بالمعدوم لم يكن التكليف أزليا ; لأن توقفه على الوجود الحادث يستلزم كونه حادثا ، واللازم باطل ، فالملزوم مثله ; لأنه أزلي لحصوله بالأمر والنهي ، وهما كلام الله ، وهو أزلي .
وهذا البحث يتوقف على مسألة الخلاف في كلام الله سبحانه ، وهي مقررة في علم الكلام .
واحتج الآخرون : بأنه لو كان المعدوم يتعلق به الخطاب لزم أن يكون الأمر والنهي والخبر والنداء والاستخبار من غير متعلق موجود ، وهو محال . ورد بعدم تسليم كونه محالا ، بل هو محل النزاع .
وتطويل الكلام في هذا البحث قليل الجدوى ، بل مسألة الخلاف في كلام الله سبحانه ، وإن طالت ذيولها ، وتفرق الناس فيها فرقا ، وامتحن بها من امتحن من أهل العلم ، وظن من ظن أنها من أعظم مسائل أصول الدين - ليس لها كثير فائدة ، بل هي من فضول العلم ، ولهذا صان الله سلف هذه الأمة من الصحابة والتابعين وتابعيهم عن التكلم فيها .