[ ص: 49 ] الفصل الثاني في الأحكام
وإنما قدمنا الكلام في الأحكام على الكلام في اللغات ; لأنه يتعلق بالأحكام مسائل من مهمات علم الكلام سنذكرها هاهنا إن شاء الله تعالى ، وفيه أربعة أبحاث :
البحث الأول : في الحكم .
الثاني : في الحاكم .
الثالث : في المحكوم به .
الرابع : في المحكوم عليه .
البحث الأول : في الحكم
فاعلم أن . فيتناول اقتضاء الوجود واقتضاء العدم إما مع الجزم أو مع جواز الترك ، فيدخل في هذا الواجب والمحظور والمندوب والمكروه ، وأما التخيير : فهو الإباحة ، وأما الوضع : فهو السبب والشرط والمانع . الحكم : هو الخطاب المتعلق بأفعال المكلفين بالاقتضاء أو التخيير أو الوضع
فالأحكام التكليفية خمسة ; لأن الخطاب إما أن يكون جازما أو لا يكون جازما ؛ فإن كان جازما ، فإما أن يكون طلب الفعل وهو الإيجاب ، أو طلب الترك وهو التحريم ، وإن كان غير جازم فالطرفان إما أن يكونا على السوية وهو الإباحة ، أو يترجح جانب الوجود وهو الندب ، أو يترجح جانب الترك وهو الكراهة . فكانت الأحكام ثمانية : خمسة تكليفية ، وثلاثة وضعية .
وتسمية الخمسة تكليفية تغليب ; إذ لا تكليف في الإباحة بل ولا في الندب والكراهة التنزيهية عند الجمهور .
[ ص: 50 ] وسميت الثلاثة وضعية ; لأن الشارع وضعها علامات لأحكام تكليفية وجودا وانتفاء .
: ما يمدح فاعله ، ويذم تاركه على بعض الوجوه . فلا يرد النقض بالواجب المخير ، وبالواجب على الكفاية ، فإنه لا يذم في الأول إذا تركه مع الآخر ، ولا يذم في الثاني إلا إذا لم يقم به غيره . فالواجب في الاصطلاح
وينقسم إلى معين ، ومخير ، ومضيق ، وموسع ، وعلى الأعيان ، وعلى الكفاية .
ويرادفه الفرض عند الجمهور ، وقيل : . والأول أولى . الفرض ما كان دليله قطعيا ، والواجب ما كان دليله ظنيا
[ ص: 51 ] ، ويقال له المحرم ، والمعصية ، والذنب ، والمزجور عنه ، والمتوعد عليه والقبيح . والمحظور : ما يذم فاعله ، ويمدح تاركه
، وقيل : هو الذي يكون فعله راجحا في نظر الشرع ، ويقال له : مرغب فيه ، ومستحب ، ونفل ، وتطوع ، وإحسان ، وسنة . وقيل : إنه لا يقال له سنة إلا إذا داوم عليه الشارع كالوتر ورواتب الفرائض . والمندوب : ما يمدح فاعله ، ولا يذم تاركه
، [ ص: 52 ] ويقال بالاشتراك على أمور ثلاثة : على والمكروه : ما يمدح تاركه ، ولا يذم فاعله ، وهو الذي أشعر فاعله أن تركه خير من فعله ، وعلى ما نهي عنه نهي تنزيه كترك صلاة الضحى وعلى ترك الأولى المتقدم . المحظور
. والمعنى : أنه أعلم فاعله أنه لا ضرر عليه في فعله وتركه ، وقد والمباح : ما لا يمدح على فعله ، ولا على تركه ، كما يقال " دم المرتد مباح " أي لا ضرر على من أراقه ، ويقال للمباح الحلال ، والجائز ، والمطلق . يطلق على ما لا ضرر على فاعله ، وإن كان تركه محظورا
هو جعل وصف ظاهر منضبط مناطا لوجود حكم ، أي يستلزم وجوده وجوده . والسبب
وبيانه : أن لله سبحانه في الزاني - مثلا - حكمين : أحدهما تكليفي ، وهو وجوب الحد عليه ، والثاني وضعي ، وهو جعل الزنا سببا لوجوب الحد ; لأن الزنا لا يوجب الحد بعينه وذاته بل بجعل الشرع .
وينقسم السبب بالاستقراء إلى الوقتية ، كزوال الشمس لوجوب الصلاة ، والمعنوية كالإسكار للتحريم ، وكالملك للضمان ، والمعصية للعقوبة .
. وحقيقة الشرط هو ما كان عدمه يستلزم عدم الحكم ، فهو وصف ظاهر منضبط يستلزم ذلك ، أو يستلزم عدم السبب ; لحكمة في عدمه تنافي حكمة الحكم أو السبب . والشرط : هو الحكم على الوصف بكونه شرطا للحكم
وبيانه : أن الحول شرط في وجوب الزكاة ، فعدمه يستلزم عدم وجوبها ، والقدرة على التسليم شرط في صحة البيع ، فعدمها يستلزم عدم صحته ، والإحصان شرط في سببية الزنا للرجم ، فعدمه يستلزم عدمها .
[ ص: 53 ] : هو وصف ظاهر منضبط يستلزم وجوده حكمة تستلزم عدم الحكم ، أو عدم السبب ، كوجود الأبوة ، فإنه يستلزم عدم ثبوت الاقتصاص للابن من الأب لأن كون الأب سببا لوجود الابن يقتضي أن لا يصير الابن سببا لعدمه . والمانع
وفي هذا المثال الذي أطبق عليه جمهور أهل الأصول نظر ; لأن السبب المقتضي للقصاص هو فعله ، لا وجود الابن ، ولا عدمه ، ولا يصح أن يكون ذلك حكمة مانعة للقصاص ، ولكنه ورد الشرع بعدم ثبوت القصاص لفرع من أصل .
والأولى أن يمثل لذلك بوجود النجاسة المجمع عليها في بدن المصلي أو ثوبه ; فإنه سبب لعدم صحة الصلاة عند من يجعل الطهارة شرطا ، فهاهنا قد عدم شرط وهو الطهارة ، ووجد مانع وهو النجاسة ، لا عند من يجعلها واجبة فقط .
وأما المانع الذي يقتضي وجوده حكمة تخل بحكمة السبب فكالدين في الزكاة ، فإن حكمة السبب - وهو الغنى - مواساة الفقراء من فضل ماله ، ولم يدع الدين في المال فضلا يواسى به ، هذا على قول من قال : إن الدين مانع .