وقد اختلفوا في ذلك اختلافا طويلا ، واختلف النقل عنهم في ذلك اختلافا كثيرا ، فذهب جمع جم إلى أن كل قول من أقوال المجتهدين فيها حق ، وأن كل واحد منهم مصيب ، وحكاه الماوردي ، عن الأكثرين . والروياني ،
قال الماوردي : وهو قول أبي الحسن الأشعري والمعتزلة .
وذهب أبو حنيفة ، ومالك ، وأكثر الفقهاء إلى أن الحق في أحد الأقوال ، ولم يتعين لنا ، وهو عند الله متعين ; لاستحالة أن يكون الشيء الواحد ، في الزمان الواحد في الشخص الواحد ، حلالا وحراما ، وقد كان الصحابة - رضي الله عنهم - يخطئ بعضهم بعضا ، ويعترض بعضهم على بعض ، والشافعي ، ; لم يكن للتخطئة وجه . ولو كان اجتهاد كل مجتهد حقا
ثم اختلف هؤلاء بعد اتفاقهم على أن الحق واحد هل كل مجتهد مصيب أم لا ؟ فعند مالك ، ، وغيرهما أن المصيب منهم واحد ، وإن لم يتعين ، وأن جميعهم مخطئ إلا ذلك الواحد . والشافعي
[ ص: 745 ] وقال جماعة ، منهم أبو يوسف : إن كل مجتهد مصيب ، وإن كان الحق مع واحد ، وقد حكى بعض أصحاب عن الشافعي مثله . الشافعي
وأنكر ذلك وقال : إنما نسبه إليه قوم من المتأخرين ، ممن لا معرفة لهم بمذهبه . أبو إسحاق المروزي ،
قال : واختلف النقل عن القاضي أبو الطيب الطبري أبي حنيفة ، فنقل عنه أنه قال في بعض المسائل كقولنا ، وفي بعض كقول أبي يوسف ، وقد روي عن أهل العراق ، وأصحاب مالك وابن سريج وأبي حامد ، بمثل قول أبي يوسف .
واستدل على هذا بإجماع الصحابة على تصويب بعضهم بعضا ، فيما اختلفوا فيه ، ولا يجوز إجماعهم على خطأ . ابن كج
قال في المسألة ثلاثة أقوال : ابن فورك
أحدها أن الحق واحد وهو المطلوب ، وعليه دليل منصوب ، فمن وضع النظر موضعه أصاب ، ومن قصر عنه ، وفقد الصواب فهو مخطئ ، ولا إثم عليه ، ولا نقول إنه معذور ; لأن المعذور من يسقط عنه التكليف ، لعذر في تركه ، كالعاجز عن القيام في الصلاة ، وهو عندنا قد كلف إصابة العين ، لكنه خفف أمر خطابه ، وأجر على قصده الصواب ، وحكمه نافذ على الظاهر ، وهذا مذهب وأكثر أصحابه ، وعليه نص في كتاب الرسالة وأدب القاضي . الشافعي ،
( والثاني ) : أن الحق واحد ، إلا أن المجتهدين لم يتكلفوا إصابته ، وكلهم مصيبون لما كلفوا من الاجتهاد ، وإن كان بعضهم مخطئا .
( والثالث ) : أنهم كلفوا الرد إلى الأشبه على طريق الظن انتهى .
وذهب قوم إلى أن الحق واحد والمخالف له مخطئ آثم ، ويختلف خطؤه على قدر ما يتعلق به الحكم ، فقد يكون كبيرة وقد يكون صغيرة .
ومن القائلين بهذا القول الأصم . . . . . . . . . [ ص: 746 ] والمريسي وحكي عن وابن علية ، أهل الظاهر ، وعن جماعة من الشافعية ، وطائفة من الحنفية .
وقد طول أئمة الأصول الكلام في هذه المسألة ، وأوردوا من الأدلة ما لا تقوم به الحجة ، واستكثر من ذلك الرازي في المحصول ، ولم يأتوا بما يشفي طالب الحق .
وهاهنا دليل يرفع النزاع ، ويوضح الحق إيضاحا لا يبقى بعده ريب لمرتاب ، وهو الحديث الثابت في الصحيح ( من طرق ) : أن الحاكم إذا اجتهد فأصاب فله أجران ، وإن اجتهد فأخطأ فله أجر .
فهذا الحديث يفيدك أن الحق واحد ، وأن بعض المجتهدين يوافقه ، فيقال له : مصيب ، ويستحق أجرين ، وبعض المجتهدين يخالفه ، ويقال له مخطئ ، واستحقاقه الأجر لا يستلزم كونه مصيبا ، وإطلاق اسم الخطأ عليه لا يستلزم أن لا يكون له أجر ، فمن قال : كل مجتهد مصيب ، وجعل الحق متعددا بتعدد المجتهدين ، فقد أخطأ خطأ بينا ، وخالف الصواب مخالفة ظاهرة ، فإن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - جعل المجتهدين قسمين ، قسما مصيبا ، وقسما مخطئا ، ولو كان كل منهم مصيبا لم يكن لهذا التقسيم معنى .
وهكذا من قال : إن الحق واحد ، ومخالفه آثم ، فإن الحديث يرد عليه ردا بينا ، ويدفعه دفعا ظاهرا ;لأن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - سمى من لم يوافق الحق في اجتهاده مخطئا ، ورتب على ذلك استحقاقه للأجر ، فالحق الذي لا شك فيه ، ولا شبهة أن الحق واحد ، ومخالفه مأجور ، إذا كان قد وفى الاجتهاد حقه ، ولم يقصر في البحث ، بعد إحرازه لما يكون به مجتهدا .
[ ص: 747 ] ومما يحتج به على هذا حديث " " فإنه لو لم يكن الحق واحدا ; لم يكن للتقسيم معنى ، ومثله قوله - صلى الله عليه وآله وسلم - لأمير السرية القضاة ثلاثة . وإن طلب منك أهل حصن النزول على حكم الله فلا تنزلهم على حكم الله ، فإنك لا تدري أتصيب حكم الله فيهم أم لا
وما أشنع ما قاله هؤلاء الجاعلون لحكم الله - عز وجل - متعددا بتعداد المجتهدين ، تابعا لما يصدر عنهم من الاجتهادات ، فإن هذه المقالة مع كونها مخالفة للأدب مع الله - عز وجل - ومع شريعته المطهرة هي أيضا صادرة عن محض الرأي الذي لم يشهد له دليل ، ولا عضدته شبهة تقبلها العقول ، وهي أيضا مخالفة لإجماع الأمة سلفها وخلفها ، فإن الصحابة ومن بعدهم في كل عصر من العصور ما زالوا يخطئون من خالف في اجتهاده ما هو أنهض مما تمسك به ، ومن شك في ذلك ، وأنكره ; فهو لا يدري بما في بطون الدفاتر الإسلامية بأسرها ، من التصريح في كثير من المسائل بتخطئة بعضهم لبعض ، واعتراض بعضهم على بعض .
وأما الاستدلال من القائلين بهذه المقالة بمثل قصة داود وسليمان فهو عليهم لا لهم ، فإن الله سبحانه وتعالى صرح في كتابه العزيز بأن الحق هو ما قاله سليمان ففهمناها سليمان ولو كان الحق بيد كل واحد منهما ; لما كان [ ص: 748 ] لتخصيص سليمان بذلك معنى .
وأما استدلالهم بمثل قوله تعالى : ما قطعتم من لينة أو تركتموها قائمة على أصولها فبإذن الله فهو خارج عن محل النزاع ; لأن الله سبحانه قد صرح في هذه الآية بأن ما وقع منهم ، من القطع والترك ، هو بإذنه - عز وجل ، فأفاد ذلك أن حكمه في هذه الحادثة بخصوصها ، هو كل واحد من الأمرين ، وليس النزاع إلا فيما لم يرد النص فيه ( بأنه سبحانه يريد ) بخصوصها هو كل واحد من الأمرين ، وأن حكمه على التخيير بين أمور ، يختار المكلف ما شاء منها ، كالواجب المخير ، وأن حكمه يجب على الكل ، حتى يفعله البعض ، فيسقط على الباقين ، كفروض الكفايات ، فتدبر هذا وافهمه حق فهمه .
وأما استدلالهم بتصويب كل طائفة ممن صلى قبل الوصول إلى بني قريظة ، لمن خشي فوت الوقت ، وممن ترك الصلاة حتى وصل إلى بني قريظة ; امتثالا لقوله - صلى الله عليه وآله وسلم - فالجواب عنه كالجواب عما قبله ، على أن ترك التثريب لمن قد عمل باجتهاده لا يدل على أنه قد أصاب الحق بل يدل على أنه قد أجزأه ما عمله باجتهاده ، وصح صدوره عنه ; لكونه قد بذل وسعه في تحري الحق ، وذلك لا يستلزم أن يكون هو الحق الذي طلبه الله من عباده ، وفرق بين الإصابة والصواب ، فإن إصابة الحق هي الموافقة ، بخلاف الصواب فإنه قد يطلق على من أخطأ الحق ولم يصبه ، من حيث كونه قد فعل ما كلف به ، واستحق الأجر عليه ، وإن لم يكن مصيبا للحق وموافقا له . لا يصلين أحد إلا في بني قريظة
وإذا عرفت هذا حق معرفته ، لم تحتج إلى زيادة عليه وقد حرر الصفي الهندي هذه المسألة ، وما فيها من المذاهب تحريرا جيدا فقال : الواقعة التي وقعت إما أن يكون عليها نص أو لا ، فإن كان الأول ، فإما أن يجتهد المجتهد أو لا ، الثاني على قسمين ; لأنه إما أن يقصر في طلبه أو لا يقصر ، فإن وجده وحكم بمقتضاه فلا كلام ، وإن لم يحكم بمقتضاه ، فإن كان مع العلم بوجه دلالته على المطلوب ، فهو مخطئ وآثم ، وفاقا . وإن لم يكن مع العلم ، ولكن قصر في البحث عنه ، فكذلك ، وإن لم يقصر ، بل بالغ في [ ص: 749 ] الاستكشاف والبحث ، ولم يعثر على وجه دلالته على المطلوب ، فحكمه حكم ( ما إذا لم ) يجده ، مع الطلب الشديد وسيأتي .
وإن لم يجده ، فإن كان التقصير في الطلب فهو مخطئ وآثم ، وإن لم يقصر بل بالغ في التنقيب عنه ، وأفرغ الوسع في طلبه ، ومع ذلك لم يجده ، فإن خفي عليه الراوي الذي عنده النص ، أو عرفه ولكن مات قبل وصوله إليه فهو غير آثم قطعا ، وهل هو مخطئ أو مصيب ، على الخلاف الآتي فيما لا نص فيه ، والأولى بأن يكون مخطئا ، وأما ( التي لا نص ) فيها ، فإما أن يقال : لله فيها قبل اجتهاد المجتهد حكم معين أولا ، بل حكمه تابع لاجتهاد المجتهدين ، فهذا الثاني من قول من قال : كل مجتهد مصيب ، وهو مذهب جمهور المتكلمين كالشيخ والقاضي أبي الحسن الأشعري ، ، والغزالي والمعتزلة ، كأبي الهذيل ، وأبي علي ، وأبي هاشم ، وأتباعه ، ونقل عن الشافعي وأبي حنيفة ، والمشهور عنهما خلافه .
فإن لم يوجد في الواقعة حكم معين ، فهل وجد فيها ما لو حكم الله تعالى فيها بحكم ، لما حكم إلا به ، أو لم يوجد ذلك والأول هو القول بالأشبه ، وهو قول كثير من المصوبين ، وإليه صار أبو يوسف ، ومحمد بن الحسن في إحدى الروايتين عنه ، قال : وأما الثاني : فقول الخلص من المصوبة انتهى . وابن شريح ،