فذهب جمع إلى أنه لا يجوز ، قائم بحجج الله ، يبين للناس ما نزل إليهم . خلو الزمان عن مجتهد
قال بعضهم : ولا بد أن يكون في كل قطر من يقوم به الكفاية ; لأن الاجتهاد من فروض الكفايات .
قال ابن الصلاح : الذي رأيته في كلام الأئمة يشعر بأنه لا يتأتى فرض الكفاية بالمجتهد المقيد ، قال : والظاهر أنه لا يتأتى في الفتوى . وقال بعضهم : : فرض عين ، وفرض كفاية ، وندب . الاجتهاد في حق العلماء على ثلاثة أضرب
( فالأول ) : على حالين : اجتهاد في حق نفسه عند نزول الحادثة .
( والثاني ) : اجتهاد فيما يتعين عليه الحكم فيه ، فإن ضاق فرض الحادثة كان على الفور ، وإلا كان على التراخي .
( والثاني ) على حالين :
( أحدهما ) : إذا نزلت بالمستفتي حادثة ، فاستفتى أحد العلماء ، توجه الفرض على جميعهم ، وأخصهم بمعرفتها من خص بالسؤال عنها ، فإن أجاب هو أو غيره سقط [ ص: 723 ] الفرض ، وإلا أثموا جميعا .
( والثاني ) : أن يتردد الحكم بين قاضيين مشتركين في النظر ، فيكون فرض الاجتهاد مشتركا بينهما ، فأيهما تفرد بالحكم فيه سقط فرضه عنها .
( والثالث ) : على حالين :
( أحدهما ) : فيما يجتهد فيه العالم من غير النوازل ، يسبق إلى معرفة حكمه قبل نزوله .
( والثاني ) : أن يستفتيه قبل نزولها انتهى .
ولا يخفاك أن القول بكون الاجتهاد فرضا ، يستلزم عدم خلو الزمان عن مجتهد ، ويدل على ذلك ما صح عنه - صلى الله عليه وآله وسلم - من قوله : . لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين حتى تقوم الساعة
وقد حكى الزركشي في البحر عن الأكثرين : أنه يجوز خلو العصر عن المجتهد ، وبه جزم صاحب المحصول .
قال الرافعي : الخلق كالمتفقين على أنه لا مجتهد اليوم .
قال الزركشي : ولعله أخذه من كلام الإمام الرازي ، أو من قول في الوسيط : " قد خلا العصر عن المجتهد المستقل " . الغزالي
قال الزركشي : ونقل الاتفاق عجيب ، والمسألة خلافية بيننا وبين الحنابلة ، وساعدهم بعض أئمتنا .
والحق أن الفقيه الفطن للقياس كالمجتهد في حق العامي ، لا الناقل فقط .
وقالت الحنابلة : لا يجوز خلو العصر عن مجتهد ، وبه جزم الأستاذ أبو إسحاق والزبيري ونسبه أبو إسحاق إلى الفقهاء ، قال : ومعناه : أن الله تعالى لو أخلى زمانا من قائم بحجة ، زال التكليف ، إذ التكليف لا يثبت إلا بالحجة الظاهرة ، وإذا زال [ ص: 724 ] التكليف بطلت الشريعة .
قال الزبيري : لن تخلو الأرض من قائم لله بالحجة في كل وقت ، ودهر وزمان ، وذلك قليل في كثير ، فأما أن يكون غير موجود ، كما قال الخصم ، فليس بصواب ; لأنه لو عدم الفقهاء لم تقم الفرائض كلها ، ولو عطلت الفرائض كلها لحلت النقمة بالخلق ، كما جاء في الخبر " " ونحن نعوذ بالله أن نؤخر مع الأشرار انتهى . لا تقوم الساعة إلا على شرار الناس
قال ابن دقيق العيد : هذا هو المختار عندنا لكن إلى الحد الذي ينتقض به القواعد بسبب زوال الدنيا في آخر الزمان .
وقال في " شرح خطبة الإلمام " : والأرض لا تخلو من قائم لله بالحجة ، والأمة الشريفة لا بد لها من سالك إلى الحق على واضح الحجة ، إلا أن يأتي أمر الله في أشراط الساعة الكبرى انتهى .
وما قاله رحمه الله من أنه قد خلا العصر عن المجتهد ، قد سبقه إلى القول به الغزالي القفال ، ولكنه ناقض ذلك فقال : إنه ليس بمقلد ، وإنما وافق رأيه رأيه كما حكى ذلك عنه للشافعي الزركشي ، وقال : قول هؤلاء القائلين بخلو العصر عن المجتهد مما يقضي منه العجب ، فإنهم إن قالوا ذلك باعتبار المعاصرين لهم ، فقد عاصر القفال ، ، والغزالي والرازي ، والرافعي ، من الأئمة القائمين بعلوم الاجتهاد على الوفاء ، والكمال جماعة منهم ، ومن كان له إلمام بعلم التاريخ ، واطلاع على أحوال علماء الإسلام في كل عصر لا يخفى عليه مثل هذا ، بل قد جاء بعدهم من أهل العلم من جمع الله له من العلوم فوق ما اعتبره أهل العلم في الاجتهاد .
وإن قالوا ذلك لا بهذا الاعتبار ، بل باعتبار أن الله - عز وجل - رفع ما تفضل به على من قبل هؤلاء من هذه الأمة من كمال الفهم ، وقوة الإدراك ، والاستعداد للمعارف ، فهذه دعوى من أبطل الباطلات ، بل هي جهالة من الجهالات .
وإن كان ذلك باعتبار تيسر العلم لمن قبل هؤلاء المنكرين ، وصعوبته عليهم ، وعلى [ ص: 725 ] أهل عصورهم ، فهذه أيضا دعوى باطلة ، فإنه لا يخفى على من له أدنى فهم أن الاجتهاد قد يسره الله للمتأخرين تيسيرا لم يكن للسابقين ; لأن التفاسير للكتاب العزيز قد دونت ، وصارت في الكثرة إلى حد لا يمكن حصره ، والسنة المطهرة قد دونت ، وتكلم الأئمة على التفسير ( والترجيح ، والتصحيح ، والتجريح ) بما هو زيادة على ما يحتاج إليه المجتهد ، وقد كان السلف الصالح ، ومن قبل هؤلاء المنكرين يرحل للحديث الواحد من قطر إلى قطر ، فالاجتهاد على المتأخرين أيسر وأسهل من الاجتهاد على المتقدمين ، ولا يخالف في هذا من له فهم صحيح ، وعقل سوي .
وإذا أمعنت النظر وجدت هؤلاء المنكرين إنما أتوا من قبل أنفسهم ، فإنهم لما عكفوا على التقليد ، واشتغلوا بغير علم الكتاب والسنة ، حكموا على غيرهم بما وقعوا فيه ، واستصعبوا ما سهله الله على من رزقه العمل والفهم ، وأفاض على قلبه أنواع علوم الكتاب والسنة .
ولما كان هؤلاء الذين صرحوا بعدم وجود المجتهدين شافعية ، فها نحن نوضح لك من وجد من الشافعية بعد عصرهم ، ممن لا يخالف مخالف في أنه جمع أضعاف علوم الاجتهاد ، فمنهم ابن عبد السلام وتلميذه ابن دقيق العيد ثم تلميذه ابن سيد الناس ثم تلميذه زين الدين العراقي ثم تلميذه ابن حجر العسقلاني [ ص: 726 ] ثم تلميذه السيوطي فهؤلاء ستة أعلام ، كل واحد منهم تلميذ من قبله ، قد بلغوا من المعارف العلمية ما يعرفه من يعرف مصنفاتهم حق معرفتها ، وكل واحد منهم إمام كبير في الكتاب والسنة ، محيط بعلوم الاجتهاد ، إحاطة متضاعفة ، عالم بعلوم خارجة عنها .
ثم في المعاصرين لهؤلاء كثير من المماثلين لهم ، وجاء بعدهم من لا يقصر عن بلوغ مراتبهم ، والتعداد لبعضهم ، فضلا عن كلهم يحتاج إلى بسط طويل ، وقد قال الزركشي في البحر ما لفظه " ولم يختلف اثنان في أن ابن عبد السلام بلغ رتبة الاجتهاد وكذلك ابن دقيق العيد " انتهى .
وحكاية هذا الإجماع من هذا يكفي في مقابلة حكاية الاتفاق من ذلك الشافعي الشافعي والرافعي .
وبالجملة فتطوير البحث في مثل هذا لا يأتي بكثير فائدة ، فإن أمره أوضح من كل واضح ، وليس ما يقوله من كان من أسراء التقليد بلازم لمن فتح الله عليه أبواب المعارف ، ورزقه من العلم ما يخرج به عن تقليد الرجال ، وما هذه بأول فاقرة جاء بها المقلدون ، ولا هي بأول مقالة باطلة قالها المقصرون .
ومن حصر فضل الله على بعض خلقه ، وقصر فهم هذه الشريعة المطهرة على من تقدم عصره ، فقد تجرأ على الله - عز وجل ، ثم على شريعته الموضوعة لكل عباده ، ثم على عباده الذين تعبدهم الله بالكتاب والسنة .
ويالله العجب من مقالات هي جهالات ، وضلالات ، فإن هذه المقالة تستلزم رفع التعبد بالكتاب والسنة ، وأنه لم يبق إلا ، الذين هم متعبدون بالكتاب والسنة كتعبد من جاء بعدهم على حد سواء ، فإن كان التعبد بالكتاب والسنة مختصا بمن كانوا في العصور السابقة ، ولم يبق لهؤلاء إلا التقليد لمن تقدمهم ولا يتمكنون من معرفة أحكام الله ، من كتاب الله وسنة رسوله ; فما الدليل على هذه [ ص: 727 ] التفرقة الباطلة ، والمقالة الزائفة ، وهل النسخ إلا هذا تقليد الرجال سبحانك هذا بهتان عظيم .