ولنذكر هاهنا فوائد لها بعض اتصال بمباحث الاستدلال
الفائدة الأولى
في قول الصحابي
اعلم أنهم قد اتفقوا على أن قول الصحابي في مسائل الاجتهاد ليس بحجة على صحابي آخر ، وممن نقل هذا الاتفاق القاضي أبو بكر ، ، والآمدي وابن الحاجب وغيرهم .
واختلفوا هل يكون حجة على من بعد الصحابة من التابعين ، ومن بعدهم ، على أقوال :
[ ص: 695 ] ( الأول ) : أنه ليس بحجة مطلقا ، وإليه ذهب الجمهور .
( الثاني ) : أنه حجة شرعية ، مقدمة على القياس ، وبه قال أكثر الحنفية ونقل عن مالك وهو قول . الشافعي
( الثالث ) : أنه حجة إذا انضم إليه القياس ، فيقدم حينئذ على قياس ليس معه قول الصحابي ، وهو ظاهر قول في الرسالة . الشافعي
قال : وأقوال الصحابة إذا تفرقوا نصير منها إلى ما وافق الكتاب ، أو السنة ، أو الإجماع ، أو ما كان أصح في القياس ، وإذا قال واحد منهم القول لا يحفظ عن غيره منهم له فيه موافقة ولا مخالفة ; صرت إلى اتباع قول واحدهم إذا لم أجد كتابا ، ولا سنة ، ولا إجماعا ، ولا شيئا يحكم له بحكمه ، أو وجد معه قياس انتهى .
وحكى القاضي حسين ، وغيره من أصحاب عنه أنه يرى في الجديد أن قول الصحابي حجة ، إذا عضده القياس ، وكذا حكاه عنه الشافعي ، القفال الشاشي وابن القطان .
قال القاضي في التقريب : إنه قاله في الجديد واستقر عليه مذهبه وحكاه عنه الشافعي المزني ، . وابن أبي هريرة
( الرابع ) : أنه حجة إذا خالف القياس ; لأنه لا محمل له إلا التوقيف ، وذلك أن القياس والتحكم في دين الله باطل ، فيعلم أنه لم يقلد إلا توقيفا .
قال ابن برهان في الوجيز : وهذا هو الحق المبين ، قال : ومسائل الإمامين أبي حنيفة - رحمهما الله - تدل عليه انتهى . والشافعي
[ ص: 696 ] ولا يخفاك أن الكلام في قول الصحابي إذا كان ما قاله من مسائل الاجتهاد ، أما إذا لم يكن منها ، ودل دليل على التوقيف ; فليس مما نحن بصدده ، والحق أنه ليس بحجة فإن الله سبحانه لم يبعث إلى هذه الأمة إلا نبينا محمدا - صلى الله عليه وآله وسلم - ، وليس لنا إلا رسول واحد ، وكتاب واحد ، وجميع الأمة مأمورة باتباع كتابه وسنة نبيه ، ولا فرق بين الصحابة وبين من بعدهم ، في ذلك ، فكلهم مكلفون بالتكاليف الشرعية ، وباتباع الكتاب والسنة ، فمن قال : إنها تقوم الحجة في دين الله - عز وجل - بغير كتاب الله ، وسنة رسوله ، وما يرجع إليهما ، قد قال في دين الله بما لم يثبت ، وأثبت في هذه الشريعة الإسلامية شرعا لم يأمر الله به ، وهذا أمر عظيم ، وتقول بالغ فإن الحكم لفرد أو أفراد من عباد الله بأن قوله ، أو أقوالهم حجة على المسلمين يجب عليهم العمل بها وتصير شرعا ثابتا متقررا تعم به البلوى ، مما لا يدان الله - عز وجل - به ، ولا يحل لمسلم الركون إليه ، ولا العمل عليه ، فإن هذا المقام لم يكن إلا لرسل الله ، الذين أرسلهم بالشرائع إلى عباده لا لغيرهم ، وإن بلغ في العلم والدين وعظم المنزلة أي مبلغ ، ولا شك أن مقام الصحبة مقام عظيم ، ولكن ذلك في الفضيلة وارتفاع الدرجة ، وعظمة الشأن ، وهذا مسلم لا شك فيه ، ولهذا ( صار مد ) أحدهم لا ( تبلغ إليه ) من غيرهم الصدقة بأمثال الجبال ، ولا تلازم بين هذا وبين جعل كل واحد منهم بمنزلة رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - في حجية قوله ، وإلزام الناس باتباعه ، فإن ذلك مما لم يأذن الله به ، ولا ثبت عنه فيه حرف واحد .
[ ص: 697 ] وأما ما تمسك به بعض القائلين بحجية قول الصحابي ، مما روي عنه - صلى الله عليه وآله وسلم - أنه قال أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم فهذا مما لم يثبت قط والكلام فيه معروف عند أهل هذا الشأن ، بحيث لا يصح العمل بمثله في أدنى حكم من أحكام الشرع ، فكيف مثل هذا الأمر العظيم والخطب الجليل ، على أنه لو ثبت من وجه صحيح ، لكان معناه أن مزيد عملهم بهذه الشريعة المطهرة الثابتة من الكتاب والسنة ، وحرصهم على اتباعها ومشيهم على طريقتها ، يقتضي أن اقتداء الغير بهم في العمل بها واتباعها هداية كاملة ; لأنه لو قيل لأحدهم لم قلت كذا ( أو لم ) فعلت كذا ، لم يعجز من إبراز الحجة من الكتاب والسنة ، ولم يتلعثم في بيان ذلك .
وعلى مثل هذا الحمل يحمل ما صح عنه - صلى الله عليه وآله وسلم - من قوله : أبي بكر وعمر وما صح عنه من قوله - صلى الله عليه وسلم - : اقتدوا باللذين من بعدي ، عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين الهادين .
فاعرف هذا ، واحرص عليه ، فإن الله لم يجعل إليك وإلى سائر هذه الأمة رسولا إلا محمدا - صلى الله عليه وآله وسلم - ، ولم يأمرك باتباع غيره ، ولا شرع لك على لسان سواه من أمته حرفا واحدا ، ولا جعل شيئا منه الحجة عليك في قول غيره ، كائنا من كان .