واختلفوا أيضا هل يجري والكفارات ، أم لا ، فمنعه الحنفية ، وجوزه غيرهم . القياس في الحدود ،
احتج المانعون بأن الحدود مشتملة على تقديرات لا تعقل ، كعدد المائة في الزنا ، والثمانين في القذف ، فإن العقل لا يدرك الحكمة في اعتبار خصوص هذا العدد ، والقياس فرع تعقل المعنى في حكمة الأصل ، وما كان يعقل منها ، كقطع يد السارق ، لكونها قد جنت بالسرقة فقطعت ، فإن الشبهة في القياس لاحتماله الخطأ توجب المنع من إثباته بالقياس ، وهكذا اختلاف تقديرات الكفارات فإنه لا يعقل ، كما لا تعقل أعداد الركعات .
[ ص: 645 ] وأجيب عن ذلك : بأن جريان القياس إنما يكون فيما يعقل معناه منها ، لا فيما لا يعقل ، فإنه لا خلاف في عدم جريان القياس فيه ، كما في غير الحدود والكفارات ولا مدخل لخصوصيتهما في امتناع القياس .
وأجيب عما ذكروه من الشبهة في القياس ; لاحتماله الخطأ ، بالنقض بخبر الواحد ، وبالشهادة ، فإن احتمال الخطإ فيهما قائم ; لأنهما لا يفيدان القطع ، وذلك يقتضي عدم ثبوت الحد بهما .
والجواب : الجواب .
واحتج القائلون بإثبات القياس في الحدود والكفارات ، بأن الدليل الدال على حجية القياس يتناولهما بعمومه ، فوجب العمل به فيهما .
ويؤيد ذلك أن الصحابة حدوا في الخمر بالقياس ، حتى تشاوروا فيه ، فقال علي - رضي الله عنه - : إذا شرب سكر وإذا سكر هذى ، وإذا هذى افترى; فأرى عليه حد الافتراء .
فأقام مظنة الشيء مقامه ، وذلك هو القياس .
واحتجوا أيضا بأن القياس إنما يثبت في غير الحدود والكفارات; لاقتضاء الظن ، وهو حاصل فيهما فوجب العمل به .
واعلم أن عدم جريان القياس فيما لا يعقل معناه ، كضرب الدية على العاقلة ، قد قيل : إنه إجماع ، وقيل : إنه مذهب الجمهور ، وأن المخالف في ذلك شذوذ .
ووجه المنع أن القياس فرع تعقل المعنى المعلل به الحكم في الأصل .
و استدل من أثبت القياس فيما لا يعقل معناه بأن الأحكام الشرعية متماثلة; لأنه يشملها حد واحد ، وهو الحكم الشرعي ، والمتماثلان يجب اشتراكهما فيما يجوز عليهما; لأن حكم الشيء حكم مثله .
[ ص: 646 ] وأجيب : بأن هذا القدر لا يوجب التماثل ، وهو الاشتراك في النوع ، فإن الأنواع المتخالفة قد تندرج تحت جنس واحد ، فيعمها حد واحد ، وهو حد ذلك الجنس ، ولا يلزم من ذلك تماثلها ، بل تشترك في الجنس ، ويمتاز كل نوع منها بأمر يميزه ، وحينئذ فما كان يلحقها باعتبار القدر المشترك من الجواز والامتناع يكون عاما ، لا ما كان يلحقها باعتباره غيره .