[ ص: 99 ] البحث الرابع : في وقوع المجاز في لغة العرب
المجاز واقع في لغة العرب ، عند جمهور أهل العلم .
وخالف في ذلك ، وخلافه هذا يدل أبلغ دلالة على عدم اطلاعه على لغة العرب ، وينادي بأعلى صوت بأن سبب هذا الخلاف تفريطه في الاطلاع على ما ينبغي الاطلاع عليه من هذه اللغة الشريفة ، وما اشتملت عليه من الحقائق والمجازات التي لا تخفى على من له أدنى معرفة بها . أبو إسحاق الإسفراييني
وقد استدل بما هو أوهن من بيت العنكبوت ، فقال : إنه لو كان المجاز واقعا في لغة العرب ، لزم الإخلال بالتفاهم ؛ إذ قد تخفى القرينة .
وهذا التعليل عليل ، فإن تجويز خفاء القرينة أخفى من السها .
واستدل صاحب المحصول لهذا القائل : بأن اللفظ لو أفاد المعنى على سبيل المجاز ، فإما أن يفيد مع القرينة ، أو بدونها .
والأول باطل ; لأنه مع القرينة المخصوصة لا يحتمل غير ذلك ، فيكون هو مع تلك القرينة حقيقة لا مجازا .
والثاني باطل ; لأن اللفظ لو أفاد معناه المجازي بدون قرينة ، لكان حقيقة فيه ؛ إذ لا معنى للحقيقة إلا كونها مستقلة بالإفادة بدون قرينة .
وأجاب عنه : بأن هذا نزاع في العبارة .
ولنا أن نقول : اللفظ الذي لا يفيد إلا مع القرينة هو المجاز ، ولا يقال للفظة مع القرينة حقيقة فيه ; لأن دلالة القرينة ليست دلالة وضعية حتى يجعل المجموع لفظا واحدا دالا على المسمى .
[ ص: 100 ] وعلى كل حال : فهذا القول لا ينبغي الاشتغال بدفعه ، ولا التطويل في رده ، فإن وقوع المجاز وكثرته في اللغة العربية أشهر من نار على علم ، وأوضح من شمس النهار .
قال : أكثر اللغة مجاز . ابن جني
وقد قيل : إن أبا علي الفارسي قائل بمثل هذه المقالة التي قالها الإسفراييني . وما أظن مثل أبي علي يقول ذلك ؛ فإنه إمام اللغة العربية الذي لا يخفى على مثله مثل هذا الواضح البين الظاهر الجلي .
وكما أن المجاز واقع في لغة العرب ، فهو أيضا واقع في الكتاب العزيز - عند الجماهير - وقوعا كثيرا ، بحيث لا يخفى إلا على من لا يفرق بين الحقيقة والمجاز .
وقد روي عن الظاهرية نفيه في الكتاب العزيز ، وما هذا بأول مسائلهم التي جمدوا فيها جمودا يأباه الإنصاف ، وينكره الفهم ويجحده العقل .
وأما ما استدل به لهم ، من أن المجاز كذب ; لأنه ينفي فيصدق نفيه ، وهو باطل ; لأن الصادق إنما هو نفي الحقيقة ، فلا ينافي صدق إثبات المجاز ، وليس في المقام من الخلاف ما يقتضي ذكر بعض المجازات الواقعة في القرآن ، والأمر أوضح من ذلك .
وكما أن المجاز واقع في الكتاب العزيز وقوعا كثيرا ، فهو أيضا واقع في السنة وقوعا كثيرا ، والإنكار لهذا الوقوع مباهتة لا يستحق المجاوبة .