البحث الثالث : في ثبوت الحقيقة اللغوية ، والعرفية ، والشرعية .
قد اتفق أهل العلم على ثبوت الحقيقة اللغوية ، واختلفوا في ثبوت والعرفية ، وهي اللفظ الذي استفيد من الشرع وضعه للمعنى ، سواء كان اللفظ والمعنى مجهولين عند أهل اللغة ، أو كانا معلومين ، لكنهم لم يضعوا ذلك الاسم لذلك المعنى ، أو كان أحدهما مجهولا والآخر معلوما . الحقيقة الشرعية
وينبغي أن يعلم قبل ذلك الخلاف والأدلة من الجانبين ، أن الشرعية هي اللفظ المستعمل فيما وضع له بوضع الشارع ، لا بوضع أهل الشرع ، كما ظن .
فذهب الجمهور إلى إثباتها ، وذلك كالصلاة ، والزكاة ، والصوم ، والمصلي ، [ ص: 96 ] والمزكي ، والصائم ، وغير ذلك ، فمحل النزاع الألفاظ المتداولة شرعا ، المستعملة في غير معانيها اللغوية .
فالجمهور جعلوها حقائق شرعية ، بوضع الشارع لها .
وأثبت المعتزلة أيضا مع الشرعية حقائق دينية ، فقالوا : إن ما استعمله الشارع في معان غير لغوية ينقسم إلى قسمين :
القسم الأول : الأسماء التي أجريت على الأفعال ، وهي الصلاة والصوم والزكاة ونحو ذلك .
والقسم الثاني : الأسماء التي أجريت على الفاعلين ، كالمؤمن والكافر والفاسق ونحو ذلك .
فجعلوا القسم الأول حقيقة شرعية ، والقسم الثاني حقيقة دينية ، وإن كان الكل على السواء في أنه عرف شرعي .
وقال القاضي وبعض المتأخرين ورجحه أبو بكر الباقلاني الرازي : إنها مجازات لغوية غلبت في المعاني الشرعية لكثرة دورانها على ألسنة أهل الشرع .
وثمرة الخلاف : أنها إذا وردت في كلام الشارع مجردة عن القرينة ، هل تحمل على المعاني الشرعية أو على اللغوية ؟ فالجمهور قالوا بالأول والباقلاني ومن معه قالوا بالثاني .
قالوا : أما في كلام المتشرعة فيحمل على الشرعي اتفاقا ; لأنها قد صارت حقائق عرفية بينهم ، وإنما النزاع في كون ذلك بوضع الشارع وتعيينه إياها بحيث تدل على تلك المعاني بلا قرينة ، فتكون حقائق شرعية ، أو بغلبتها في لسان أهل الشرع فقط ، ولم يضعها الشارع ، بل استعملها مجازات لغوية لقرائن ، فتكون حقائق عرفية خاصة لا شرعية .
احتج الجمهور بما هو معلوم شرعا من أن الصلاة في لسان الشارع وأهل الشرع لذات الأذكار والأركان ، والزكاة لأداء مال مخصوص ، والصيام لإمساك مخصوص ، والحج لقصد مخصوص ، وأن هذه المدلولات هي المتبادرة عند الإطلاق ، وذلك علامة الحقيقة ، بعد أن كانت الصلاة في اللغة للدعاء ، والزكاة للنماء ، والصيام للإمساك [ ص: 97 ] مطلقا ، والحج للقصد مطلقا .
وأجيب عن هذا : بأنها باقية في معانيها اللغوية ، والزيادات شروط ، والشرط خارج عن المشروط .
ورد : بأنه يستلزم أن لا يكون مصليا من لم يكن داعيا كالأخرس .
وأجيب أيضا : بأنه لا يلزم من سبق المعاني الشرعية عند الإطلاق ثبوت الحقائق الشرعية ; لجواز صيرورتها بالغلبة حقائق عرفية خاصة لأهل الشرع ، وإن لم تكن حقائق شرعية بوضع الشارع .
ورد : بأنه إن أريد بكون اللفظ مجازا أن الشارع استعمله في معناه لمناسبة للمعنى اللغوي ، ثم اشتهر فأفاد بغير قرينة ، فذلك معنى الحقيقة الشرعية ، فثبت المدعي ، وإن أريد أن أهل اللغة استعملوه في هذه المعاني ، وتبعهم الشارع في ذلك ، فخلاف الظاهر للقطع بأنها معان حادثة ، ما كان أهل اللغة يعرفونها .
واحتج القاضي ومن معه : بأن إفادة هذه الألفاظ لهذه المعاني لو لم تكن لغوية ، لما كان القرآن كله عربيا ، وفساد اللازم يدل على فساد الملزوم .
أما الملازمة : فلأن هذه الألفاظ مذكورة في القرآن ، فلو لم تكن إفادتها لهذه المعاني عربية لزم أن لا يكون القرآن عربيا .
وأما فساد اللازم : فلقوله سبحانه : قرآنا عربيا وقوله : وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه .
وأجيب : بأن إفادة هذه الألفاظ لهذه المعاني وإن لم تكن عربية لكنها في الجملة ألفاظ عربية ، فإنهم كانوا يتكلمون بها في الجملة ، وإن كانوا يعنون بها غير هذه المعاني ، وإذا كان كذلك كانت هذه الألفاظ عربية ، فالملازمة ممنوعة .
وأجيب أيضا : بأنا لا نسلم أنها ليست بعربية على تسليم أنها مجازات لغوية ، جعلها الشارع حقائق شرعية ; لأن المجازات عربية ، وإن لم يصرح العرب بآحادها ، فقد جوزوا نوعها ، وذلك يكفي في نسبة المجازات بأسرها إلى لغة العرب ، وإلا لزم أنها كلها ليست بعربية ، واللازم باطل ، فالملزوم مثله .
ولو سلمنا أن المجازات العربية التي صارت حقائق بوضع الشارع ليست بعربية ، لم [ ص: 98 ] يلزم أن يكون القرآن غير عربي بدخولها فيه ; لأنها قليلة جدا ، والاعتبار بالأغلب ، فإن الثور الأسود لا يمنع إطلاق اسم الأسود عليه بوجود شعرات بيض في جلده ، على أن القرآن يقال بالاشتراك على مجموعه ، وعلى كل - بعض منه ، فلا تدل الآية على أنه كله عربي ، كما يفيده قوله في سورة يوسف : إنا أنزلناه قرآنا عربيا والمراد منه تلك السورة .
وأيضا : الحروف المذكورة في أوائل السور ليست بعربية ، والمشكاة لغة حبشية ، والإستبرق والسجيل فارسيان ، والقسطاس من لغة الروم .
وإذا عرفت هذا تقرر لك ثبوت الحقائق الشرعية ، وعلمت أن نافيها لم يأت بشيء يصلح للاستدلال كما أوضحناه ، وهكذا الكلام فيما سمته المعتزلة حقيقة دينية ؛ فإنه من جملة الحقائق الشرعية كما قدمنا ، فلا حاجة إلى تطويل البحث فيه .