المسألة السابعة والعشرون : في حجية العام المخصص
اختلفوا في ، ومحل الخلاف فيما إذا خص بمبين ، أما إذا خص بمبهم ، كما لو قال تعالى : ( فاقتلوا المشركين ) إلا بعضهم ، فلا يحتج به على شيء من الأفراد بلا خلاف ، إذ ما من فرد إلا ويجوز أن يكون هو المخرج ، وأيضا إخراج المجهول من المعلوم يصيره مجهولا ، وقد نقل الإجماع على هذا جماعة منهم العام بعد تخصيصه هل يكون حجة أم لا القاضي أبو بكر ، وابن السمعاني ، والأصفهاني .
قال الزركشي في البحر : وما نقلوه من الاتفاق فليس بصحيح .
فقد حكى ابن برهان في الوجيز الخلاف في هذه الحالة ، وبالغ فصحح العمل به مع الإبهام ، واعتل بأنا إذا نظرنا إلى فرد شككنا فيه هل هو من المخرج ، والأصل عدمه ، فيبقى على الأصل ، ونعمل به إلى أن نعلم بالقرينة بأن الدليل المخصص معارض للفظ العام ، وإنما يكون معارضا عند العلم به .
قال الزركشي : وهو صريح في الإضراب عن المخصص ، والعمل بالعام في جميع أفراده ، وهو بعيد ، وقد رد الهندي هذا البحث بأن المسألة مفروضة في الاحتجاج به في الكل المخصوص وغيره ، ولا قائل به . انتهى .
وقال بعض الشافعية بإحالة هذا محتجا بأن البيان لا يتأخر ، وهذا يؤدي إلى تأخره .
وأما إذا كان التخصيص بمبين ، فقد اختلفوا في ذلك على أقوال :
الأول : أنه حجة في الباقي ، وإليه ذهب الجمهور ، واختاره ، الآمدي وابن الحاجب ، [ ص: 397 ] وغيرهما من محققي المتأخرين ، وهو الحق الذي لا شك فيه ولا شبهة ; لأن اللفظ العام كان متناولا للكل فيكون حجة في كل واحد من أقسام ذلك الكل ، ونحن نعلم بالضرورة أن نسبة اللفظ إلى كل الأقسام على السوية ، فإخراج البعض منها بمخصص لا يقتضي إهمال دلالة اللفظ على ما بقي ، ولا يرفع التعبد به ، ولو توقف كونه حجة في البعض على كونه حجة في الكل للزم الدور ، وهو محال .
وأيضا المقتضي للعمل به فيما بقي موجود ، وهو دلالة اللفظ عليه ، والمعارض مفقود ، فوجد المقتضي ، وعدم المانع فوجب ثبوت الحكم .
وأيضا قد ثبت عن سلف هذه الأمة ، ومن بعدهم الاستدلال بالعمومات المخصوصة ، وشاع ذلك وذاع .
وأيضا قد قيل : إنه ما من عموم إلا وقد خص ، وأنه لا يوجد عام غير مخصص ، فلو قلنا : إنه غير حجة فيما بقي للزم إبطال كل عموم ، ونحن نعلم أن غالب هذه الشريعة المطهرة إنما يثبت بعمومات .
القول الثاني : أنه ليس بحجة فيما بقي ، وإليه ذهب ، عيسى بن أبان ، كما حكاه عنهما صاحب المحصول ، وحكاه وأبو ثور عن القفال الشاشي أهل العراق ، وحكاه عن الغزالي القدرية ، قال : ثم منهم من قال يبقى أقل الجمع ; لأنه المتيقن .
قال : ذهب كثير من الفقهاء الشافعية ، والمالكية ، والحنفية ، إمام الحرمين والجبائي ، وابنه إلى أن الصيغة الموضوعة للعموم إذا خصت صارت مجملة ، ولا يجوز الاستدلال بها في بقية المسميات إلا بدليل ، كسائر المجازات ، وإليه مال . انتهى . عيسى بن أبان
واستدلوا بأن معنى العموم حقيقة غير مراد مع تخصيص البعض ، وسائر ما تحته من المراتب مجازات ، وإذا كانت الحقيقة غير مرادة ، وتعددت المجازات كان اللفظ مجملا فيها فلا يحمل على شيء منها ، والباقي أحد المجازات فلا يحمل على شيء منها .
وأجيب بأن ذلك إنما يكون إذا كانت المجازات متساوية ولا دليل على تعين أحدها ، وما قدمنا من الأدلة قد دلت على حمله على الباقي فيصار إليه .
[ ص: 398 ] القول الثالث : أنه إن خص بمتصل كالشرط والاستثناء والصفة فهو حجة فيما بقي ، وإن خص بمنفصل فلا ، بل يصير مجملا ، حكاه الأستاذ أبو منصور ، عن الكرخي ، بالمثلثة والجيم . ومحمد بن شجاع الثلجي
قال أبو بكر الرازي : كان شيخنا يقول في العام : إذا ثبت خصوصه سقط الاستدلال باللفظ ، وصار حكمه موقوفا على دلالة أخرى من غيره ، فيكون بمنزلة اللفظ ، وكان يفرق بين الاستثناء المتصل باللفظ ، وبين الدلالة من غير اللفظ ، فيقول : إن الاستثناء غير مانع بقاء اللفظ فيما عدا المستثنى . انتهى . أبو الحسن الكرخي
ولا يخفاك أن قوله " سقط الاستدلال باللفظ " مجرد دعوى ليس عليها دليل ، وقوله : وصار حكمه . . إلخ دعوى إلى دعوى ، والأصل بقاء الدلالة ، والظاهر يقتضي ذلك ، فمن قال برفعها أو بعدم ظهورها لم يقبل منه ذلك إلا بدليل ، ولا دليل أصلا .
القول الرابع : إن التخصيص إن لم يمنع استفادة الحكم بالاسم وتعلقه بظاهره جاز التعلق به كما في قوله تعالى : اقتلوا المشركين ; لأن قيام الدلالة على المنع من قتل أهل الذمة لا يمنع من تعلق الحكم ، وهو القتل باسم المشركين ، وإن كان يمنع من تعلق الحكم بالاسم العام ، ويوجب تعلقه بشرط لا ينبئ عنه الظاهر لم يجز التعلق به ، كما في قوله تعالى : والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما ; لأن قيام الدلالة على اعتبار النصاب والحرز وكون المسروق لا شبهة للسارق فيه ، يمنع من تعلق الحكم ، وهو القطع بعموم اسم السارق ، ويوجب تعلقه بشرط لا ينبئ عنه ظاهر اللفظ ، وإليه ذهب أبو عبد الله البصري تلميذ الكرخي .
ويجاب عنه : بأن محل النزاع دلالة اللفظ العام على ما بقي بعد التخصيص ، وهي كائنة في الموضعين ، والاختلاف بكون الدلالة في البعض أظهر منها في البعض الآخر باعتبار أمر خارج لا يقتضي ما ذكره من التفرقة المفضية إلى سقوط دلالة الدال أصلا وظاهرا .
القول الخامس : إن كان لا يتوقف على البيان قبل التخصيص ، ولا يحتاج إليه كـ اقتلوا المشركين فهو حجة ; لأن مراده بين قبل إخراج الذمي ، وإن كان يتوقف على البيان ، ويحتاج إليه قبل التخصيص فليس بحجة ، كقوله تعالى : أقيموا الصلاة فإنه يحتاج إلى البيان قبل إخراج الحائض ونحوها ، وإليه ذهب [ ص: 399 ] عبد الجبار ، وليس هو بشيء ، ولم يدل عليه دليل من عقل ولا نقل .
القول السادس : أنه يجوز التمسك به في أقل الجمع ; لأنه المتعين ، ولا يجوز فيما زاد عليه ، هكذا حكى هذا المذهب القاضي أبو بكر ، ، والغزالي وابن القشيري ، وقال : إنه تحكم .
وقال الصفي الهندي : لعله قول من لا يجوز التخصيص ألبتة .
وقد استدل لهذا القائل : بأن أقل الجمع هو المتيقن ، والباقي مشكوك فيه .
ورد : بمنع كون الباقي مشكوكا فيه لما تقدم من الأدلة .
القول السابع : أنه يتمسك به في واحد فقط ، حكاه في المنخول عن أبي هاشم ، وهو أشد تحكما مما قبله .
القول الثامن : الوقف ، فلا يعمل به إلا بدليل ، حكاه ، وجعله مغايرا لقول أبو الحسين بن القطان ، ومن معه ، وهو مدفوع بأن الوقف إنما يحسن عند توازن الحجج وتعارض الأدلة ، وليس هناك شيء من ذلك .
عيسى بن أبان