المسألة السادسة : في الاستدلال على أن كل صيغة من تلك الصيغ للعموم
وفيه فروع :
، فهذه الصيغ إما أن تكون للعموم فقط ، أو للخصوص ، أو لهما على سبيل الاشتراك ، أو لا لواحد منهما ، والكل باطل إلا الأول . الفرع الأول : في : من ، وما ، وأين ، ومتى للاستفهام
أما أنه لا يجوز أن يقال : إنها موضوعة للخصوص فقط ; فلأنه لو كان كذلك لما حسن من المجيب أن يجيب بذكر كل العقلاء ; لأن الجواب يجب أن يكون مطابقا للسؤال ، لكن لا نزاع في حسن ذلك .
وأما أنه لا يجوز أن يقال بالاشتراك ; فلأنه لو كان كذلك لما حسن الجواب إلا بعد الاستفهام عن جميع الأقسام الممكنة .
مثلا إذا قال : من عندك ؟ فلا بد أن تقول : سألتني عن الرجال أو النساء ؟ فإذا قال : عن الرجال ، فلا بد أن تقول : سألتني عن العرب أو عن العجم ؟ فإذا قال : عن العرب ، [ ص: 348 ] فلا بد أن تقول عن ربيعة أو مضر ، وهكذا إلى أن تأتي على جميع الأقسام الممكنة ، وذلك لأن اللفظ إما أن يقال إنه مشترك بين الاستغراق وبين مرتبة معينة في الخصوص ، أو بين الاستغراق وبين جميع المراتب الممكنة في الخصوص ، والأول باطل ; لأن أحدا لم يقل به ، والثاني يقتضي أن لا يحسن من المجيب ذكر الجواب إلا بعد الاستفهام عن كل تلك الأقسام ; لأن الجواب لا بد أن يكون مطابقا للسؤال فإذا كان السؤال محتملا لأمور كثيرة ، فلو أجاب قبل أن يعرف ما عنه وقع السؤال لاحتمل أن لا يكون الجواب مطابقا للسؤال ، وذلك غير جائز ، فثبت أن لو صح الاشتراك لوجبت هذه الاستفهامات ، لكنها غير واجبة .
أما أولا : فلأنه لا عام إلا وتحته عام آخر ، وإذا كان كذلك كانت التقسيمات الممكنة غير متناهية ، والسؤال عنها على سبيل التفصيل محال .
وأما ثانيا : فإنا نعلم بالضرورة من عادة أهل اللسان أنهم يستقبحون مثل هذه الاستفهامات .
وأما أنه لا يجوز أن تكون هذه الصيغة غير موضوعة للعموم والخصوص ، فمتفق عليه ، فبطلت هذه الثلاثة ، ولم يبق إلا القسم الأول .
، فإنها للعموم ، ويدل عليه أن قول القائل : من دخل داري فأكرمه ، لو كان مشتركا بين العموم والخصوص لما حسن من المخاطب أن يجري على موجب الأمر إلا عند الاستفهام عن جميع الأقسام ، لكنه قد حسن ذلك بدون استفهام ، فدل على عدم الاشتراك ، كما سبق في الفرع الذي قبل هذا . الفرع الثاني : في صيغة ( من ، وما ) في المجازاة
وأيضا لو قال : من دخل داري فأكرمه ، حسن منه استثناء كل واحد من العقلاء من هذا الكلام ، وحسن ذلك معلوم من عادة أهل اللغة ضرورة ، والاستثناء يخرج من الكلام ما لولاه لوجب دخوله فيه ، وذلك أنه لا نزاع أن المستثنى من الجنس لا بد أن يصح دخوله تحت المستثنى منه . فإما أن لا يعتبر مع الصحة الوجوب أو يعتبر ، والأول باطل ، وإلا لم يبق فرق بين من الجمع المنكر ، كقولك : جاءني فقهاء إلا زيدا ، وبين الاستثناء من الجمع المعرف كقولك : جاءني الفقهاء إلا زيدا ، والفرق بينهما معلوم بالضرورة من عادة العرب ، فعلمنا أن الاستثناء من الجمع المعرف يقتضي إخراج ما لولاه لوجب دخوله تحت اللفظ ، وهو المطلوب . الاستثناء
[ ص: 349 ] ، ويدل على ذلك أنك إذا قلت : جاءني كل عالم في البلد ، أو جميع علماء البلد ، فإنه يناقضه قولك : ما جاءني كل عالم في البلد ، وما جاءني جميع علماء البلد ، ولذلك يستعمل كل واحد من هذين الكلامين في تكذيب الآخر ، والتناقض لا يتحقق إلا إذا أفاد الكل الاستغراق ; لأن النفي عن الكل لا يناقض الثبوت في البعض ، وأيضا صيغة الكل والجميع مقابلة لصيغة البعض ، ولولا أن صيغتهما غير محتملة للبعض لم تكن مقابلة ، وأيضا إذا قال القائل : ضربت كل من في الدار ، أو : ضربت جميع من في الدار . سبق إلى الفهم الاستغراق ، ولو كانت صيغة الكل أو الجميع مشتركة بين الكل والبعض لما كان كذلك ; لأن اللفظ المشترك لما كان بالنسبة إلى المفهومين على السوية امتنع أن تكون مبادرة الفهم إلى أحدهما أقوى منها إلى الآخر ، وأيضا إذا قال السيد لعبده : اضرب كل من دخل داري ، أو : جميع من دخل داري ، فضرب كل واحد ممن دخل لم يكن للسيد أن يعترض عليه بضرب جميعهم ، وله أن يعترض عليه إذا ترك البعض منهم ، ومثله لو قال رجل لرجل : أعتق كل عبيدي ، أو جميع عبيدي ، ثم مات لم يحصل الامتثال إلا بعتق كل عبد له ، ولا يحصل امتثاله بعتق البعض ، وأيضا لا يشك عارف بلغة العرب ، أن بين قول القائل : جاءني رجال ، وجاءني كل الرجال ، وجميع الرجال ، فرقا ظاهرا ، وهو دلالة الثاني على الاستغراق دون الأول ، وإلا لم يكن بينهما فرق ، ومعلوم أن أهل اللغة إذا أرادوا التعبير عن الاستغراق جاءوا بلفظ ( كل وجميع ) وما يفيد مفادهما ، ولو لم يكونا للاستغراق لكان استعمالهم لهما عند إرادتهم للاستغراق عبثا . الفرع الثالث : في أن صيغة ( كل ، وجميع ) يفيدان الاستغراق
قال : ليس بعد ( كل ) في كلام العرب كلمة أعم منها ، ولا فرق بين أن تقع مبتدأ بها ، أو تابعة . تقول : كل امرأة أتزوجها فهي طالق ، وجاءني القوم كلهم ، فيفيد أن المؤكد به عام ، وهي تشمل العقلاء ، وغيرهم ، والمذكر ، والمؤنث ، والمفرد ، والمثنى ، والمجموع ، فلذلك كانت أقوى صيغ العموم ، وتكون في الجميع بلفظ واحد . تقول : كل النساء ، وكل القوم ، وكل رجل ، وكل امرأة . القاضي عبد الوهاب
قال : معنى قولهم : كل رجل : كل رجال ، فأقاموا " رجلا " مقام " رجال " لأن رجلا شائع في الجنس ، والرجال للجنس ، ولا يؤكد بها المثنى استغناء عنه بـ " كل " ولا يؤكد بها إلا ذو أجزاء ، ولا يقال جاء زيد كله . انتهى . سيبويه
[ ص: 350 ] وقد ذكر علماء النحو والبيان الفرق بين أن يتقدم النفي على ( كل ) وبين أن تتقدم هي عليه ، فإذا تقدمت على حرف النفي نحو ( كل القوم لم يقم ) أفادت التنصيص على انتفاء قيام كل فرد فرد ، وإن تقدم النفي عليها مثل : لم يقم كل القوم ، لم تدل إلا على نفي المجموع ، وذلك يصدق بانتفاء القيام عن بعضهم ، ويسمى الأول عموم السلب ، والثاني سلب العموم ، من جهة أن الأول يحكم فيه بالسلب عن كل فرد ، والثاني لم يفد العموم في حق كل أحد ، إنما أفاد نفي الحكم عن بعضهم .
قال القرافي : وهذا شيء اختصت به ( كل ) من بين سائر صيغ العموم ، قال : وهذه القاعدة متفق عليها عند أرباب البيان ، وأصلها قوله صلى الله عليه وآله وسلم لما قال له كل ذلك لم يكن ذو اليدين أقصرت الصلاة أم نسيت . انتهى .
وإذا عرفت هذا في معنى ( كل ) فقد تقرر أن لفظ ( جميع ) هو بمعنى ( كل ) الإفرادي ، وهو معنى قولهم : أنها للعموم الإحاطي ، وقيل : يفترقان من جهة كون دلالة ( كل ) على فرد بطريق النصوصية ، بخلاف ( جميع ) .
وفرقت الحنفية بينهما بأن ( كل ) تعم الأشياء على سبيل الانفراد و ( جميع ) تعمها على سبيل الاجتماع ، وقد روي أن حكى هذا الفرق عن الزجاج . المبرد
، كقوله تعالى الفرع الرابع : لفظ ( أي ) فإنها من جملة صيغ العموم ، إذا كانت شرطية أو استفهامية أيا ما تدعوا فله الأسماء الحسنى وقوله أيكم يأتيني بعرشها [ ص: 351 ] وقد ذكرها في صيغ العموم الأستاذ أبو منصور البغدادي والشيخ أبو إسحاق الشيرازي وإمام الحرمين الجويني وابن الصباغ والقاضيان وسليم الرازي أبو بكر وعبد الوهاب والرازي والآمدي والصفي الهندي وغيرهم ، قالوا : وتصلح للعاقل وغيره .
قال في التخليص : إلا أنها تتناول على وجه الإفراد دون الاستغراق ، ولهذا إذا قلت أي الرجلين عندك ؟ لم يجب إلا بذكر واحد ، قال القاضي عبد الوهاب ابن السمعاني في القواطع : وأما كلمة ( أي ) فقيل : كالنكرة ; لأنها تصحبها لفظا ومعنى ، تقول : أي رجل فعل هذا ؟ وأي دار دخل ؟ قال الله تعالى : أيكم يأتيني بعرشها وهي في المعنى نكرة ; لأن المراد بها واحد منهم . انتهى .
قال الزركشي في البحر : وحاصل كلامهم أنها للاستغراق البدلي لا الشمولي ، لكن ظاهر كلام الشيخ أبي إسحاق أنها للعموم الشمولي ، وتوسع القرافي فعدى عمومها إلى الموصولة والموصوفة في النداء ، ومنهم من لم يعده كالغزالي وابن القشيري لأجل قول النحاة : إنها بمعنى " بعض " إذا أضيفت إلى معرفة ، وقول الفقهاء : أي وقت دخلت الدار فأنت طالق ، لا يتكرر الطلاق بتكرار الدخول ، كما في " كلما " .
والحق أن عدم التكرار لا ينافي العموم ، وكون مدلولها أحد الشيئين قدر مشترك بينهما وبين بقية الصيغ في الاستفهام .
وقال صاحب اللباب من الحنفية وأبو زيد في التقويم كلمة ( أي ) نكرة لا تقتضي العموم بنفسها إلا بقرينة ، ألا ترى إلى قوله أيكم يأتيني بعرشها ولم يقل يأتوني ، ولو قال لغيره : أي عبيدي ضربته فهو حر ، فضربهم لم يعتق إلا واحد ، فإن وصفها بصفة عامة كانت للعموم بقوله : أي عبيدي ضربك فهو حر ، فضربوه جميعا . عتقوا لعموم فعل الضرب .
وصرح بأنها ليست من صيغ العموم فقال : وأما ( أي ) فهي اسم مفرد يتناول جزءا من الجملة المضافة . قال الله سبحانه وتعالى : إلكيا الطبري أيكم يأتيني بعرشها فجاء به واحد وقال أيكم أحسن عملا وصرح القاضي حسين والشاشي أنه لا فرق بين الصورتين المذكورتين ، وأن العبيد يعتقون جميعا فيهما ، وجزم ابن [ ص: 352 ] الهمام في التحرير بأنها في الشرط ، والاستفهام كـ " كل " مع النكرة ، وكالبعض مع المعرفة ، وهو المناسب لما قرره النحاة فيها ، فإن الفرق بين قول القائل : أي رجل تضرب أضرب ، وبين : أي الرجلين تضرب أضرب - ظاهر لا يخفى .
; وذلك لوجهين : الفرع الخامس : النكرة في النفي ، فإنها تعم
الأول : أن الإنسان إذا قال : أكلت اليوم شيئا فمن أراد تكذيبه قال : ما أكلت اليوم شيئا ، فذكرهم هذا النفي عند تكذيب ذلك الإثبات يدل على اتفاقهم على كونه مناقضا له ، فلو كان قوله : ما أكلت اليوم شيئا لا يقتضي العموم لما تناقضا ; لأن السلب الجزئي لا يناقض الإيجاب الجزئي .
الوجه الثاني : أنها لو لم تكن النكرة في النفي للعموم لما كان قولنا : لا إله إلا الله ، نفيا لجميع الآلهة سوى الله سبحانه وتعالى ، فتقرر بهذا أن النكرة المنفية بما ، أو لن ، أو لم ، أو ليس ، أو لا - مفيدة للعموم ، وسواء دخل حرف النفي على فعل ، نحو : ما رأيت رجلا ، أو على الاسم ، نحو : لا رجل في الدار ، ونحو : ما أحد قائما ، وما قام أحد .
وقال في الإفادة : قد فرق أهل اللغة بين النفي في قوله : ما جاءني أحد ، وما جاءني من أحد ، وبين دخوله على النكرة من أسماء الجنس ، في : ما جاءني رجل ، وما جاءني من رجل ، فرأوا تساوي اللفظين في الأول ، وأن " من " زائدة فيه ، وافتراق المعنى في الثاني ; لأن قوله : ما جاءني رجل ، يصلح أن يراد به الكل ، وأن يراد به رجل واحد ، فإذا دخلت ( من ) أخلصت النفي للاستغراق . القاضي عبد الوهاب
وقال هي للعموم ظاهرا عند تقدير ( من ) فإن دخلت ( من ) كانت نصا ، والمشهور في علم النحو الخلاف بين إمام الحرمين الجويني سيبويه . والمبرد قال : إن العموم مستفاد من النفي قبل دخول ( من ) فسيبويه قال أنه مستفاد من لفظ ( من ) والحق ما قاله والمبرد ، وكون ( من ) تفيد النصوصية بدخولها لا ينافي الظهور الكائن قبل دخولها . سيبويه
قال أبو حيان : مذهب أن ما جاءني من أحد ، وما جاءني من رجل ، ( من ) [ ص: 353 ] في الموضعين لتأكيد استغراق الجنس ، وهذا هو الصحيح . انتهى . سيبويه
ولو لم تكن من صيغ العموم قبل دخول ( من ) لما كان نحو قوله تعالى : لا يعزب عنه مثقال ذرة ، لا تجزي نفس عن نفس شيئا مقتضيا للعموم ، وقد فرق بعضهم بين حروف النفي الداخلة على النكرة بفرق لا طائل تحته ، فلا نطول بذكره .
واعلم أن حكم النكرة الواقعة في سياق النفي ، وما خرج عن ذلك من الصور ، فهو لنقل العرف له عن الوضع اللغوي . حكم النكرة الواقعة في سياق النهي
في مثل قوله الفرع السادس : لفظ ( معشر ، ومعاشر ، وعامة ، وكافة ، وقاطبة ، وسائر ) من صيغ العموم يا معشر الجن والإنس و و " جاءني القوم عامة " و نحن معاشر الأنبياء لا نورث وقاتلوا المشركين كافة و " ارتدت العرب قاطبة " ، و " جاءني سائر الناس " ، إن كانت مأخوذة من سور البلد ، وهو المحيط بها ، كما قاله الجوهري ، وإن كانت من أسأر بمعنى أبقى ، فلا تعم .
وقد حكى الأزهري الاتفاق على أنها مأخوذة من المعنى الثاني وغلطوا الجوهري .
وأجيب عن الأزهري : بأنه قد وافق الجوهري على ذلك في شرح كتاب [ ص: 354 ] السيرافي سيبويه وأبو منصور الجواليقي في شرح أدب الكاتب وغيرهم ، والظاهر أنها للعموم وإن كانت بمعنى الباقي ; لأن المراد بها شمول ما دخلت عليه ، سواء كانت بمعنى الجميع أو الباقي ، كما نقول : اللهم اغفر لي ولسائر المسلمين ، وخالف في ذلك وابن بري القرافي . والقاضي عبد الوهاب
، سواء كان سالما أو مكسرا ، وسواء كان من جموع القلة أو الكثرة ، وكذا إذا دخلت على اسم الجمع ، كركب وصحب وقوم ورهط ، وكذا إذا دخلت على اسم الجنس . الفرع السابع : الألف واللام الحرفية لا الاسمية تفيد العموم إذا دخلت على الجمع
وقد اختلف في اقتضائها للعموم إذا دخلت على هذه المذكورات على مذاهب ثلاثة .
الأول : أنه إذا كان هناك معهود حملت على العهد ، فإن لم يكن حملت على الاستغراق ، وإليه ذهب جمهور أهل العلم .
الثاني : أنها تحمل على الاستغراق ، إلا أن يقوم دليل على العهد .
الثالث : أنها تحمل عند فقد العهد على الجنس من غير استغراق ، وحكاه صاحب الميزان ، عن أبي علي الفارسي ، وأبي هاشم .
والراجح المذهب الأول ، وقال ابن الصباغ : هو إجماع الصحابة .
قال في المحصول مستدلا على هذا المذهب : لنا وجوه :
الأول : أن الأنصار لما طلبوا الإمامة احتج عليهم أبو بكر بقوله صلى الله عليه وآله وسلم قريش ، الأئمة من والأنصار سلموا تلك الحجة ، ولو لم يدل الجمع [ ص: 355 ] المعرف بلام الجنس على الاستغراق لما صحت تلك الدلالة ; لأن قوله صلى الله عليه وآله وسلم قريش لو كان معناه بعض الأئمة من الأئمة من قريش لوجب أن لا ينافي وجود إمام من قوم آخرين .
قال : الوجه الثاني : أن هذا الجمع يؤكد بما يقتضي الاستغراق فوجب أن يفيد في أصله الاستغراق . أما أنه يؤكد فكقوله فسجد الملائكة كلهم أجمعون وأما أنه بعد التأكيد يقتضي الاستغراق فبالإجماع .
الوجه الثالث : الألف واللام إذا دخلا في الاسم صار بهم معرفة ، كما نقل عن أهل اللغة فيجب صرفه إلى ما به تحصل المعرفة ، وإنما تحصل المعرفة عند إطلاقه بالصرف إلى الكل ; لأنه معلوم للمخاطب ، فأما الصرف إلى ما دونه فإنه لا يفيد المعرفة ; لأن بعض المجموع ليس أولى من بعض فكان مجهولا .
قال : الوجه الرابع : أنه يصح استثناء أي واحد كان منه ( ذلك ) .
وذلك يفيد العموم على ما تقدم ، وممن حكى إجماع الصحابة على إفادة هذا التعريف للعموم ابن الهمام في التحرير ، وحكى أيضا إجماع أهل اللغة على . قال صحة الاستثناء الزركشي في البحر : وظاهر كلام الأصوليين أنها تحمل على الاستغراق لعموم فائدته ، ولدلالة اللفظ عليه ، ونقله ابن القشيري عن المعظم ، وصاحب الميزان عن ، فقال : أبي بكر السراج النحوي يصرف إلى الجنس ، وهذا هو الذي أورده إذا تعارض جهة العهد والجنس الماوردي في أول كتاب البيع ، قالا : لأن الجنس يدخل تحت العهد ، والعهد لا يدخل تحته الجنس . والروياني
وروي عن أنه مجمل ; لأن عمومه ليس من صيغته بل من قرينة نفي المعهود ، فتعين الجنس ; لأنه لا يخرج عنها ، وهو قول إمام الحرمين الجويني ابن القشيري .
قال : إنه الصحيح ; لأن الألف واللام للتعريف ، وليست إحدى جهتي التعريف بأولى من الثانية فيكتسب اللفظ جهة الإجمال ; لاستوائه بالنسبة إليهما . انتهى . إلكيا الهراس
[ ص: 356 ] والكلام في هذا البحث يطول جدا ، فقد تكلم فيه أهل الأصول ، وأهل النحو ، وأهل البيان ، بما هو معروف ، وليس المراد هنا إلا بيان ما هو الحق ، وتعيين الراجح من المرجوح ، ومن أمعن النظر وجود التأمل علم أن الحق الحمل على الاستغراق ، إلا أن يوجد هناك ما يقتضي العهد ، وهو ظاهر في تعريف الجنس .
وأما تعريف الجمع مطلقا واسم الجمع فكذلك أيضا ; لأن التعريف يهدم الجمعية ، ويصيرها للجنس ، وهذا يدفع ما قيل من أن استغراق المفرد أشمل .
، من غير فرق بين كون المضاف جمعا ، نحو : عبيد زيد ، أو اسم جمع ، نحو : جاءني ركب الفرع الثامن : تعريف الإضافة ، وهو من مقتضيات العموم كالألف واللام المدينة ، أو اسم جنس ، نحو وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها العراق درهمها ودينارها ، ومنعت الشام قفيزها وصاعها ، وقد صرح ومنعت الرازي بأن المفرد المضاف يعم ، مع اختياره بأن المعرف بالألف واللام لا يعم .
قال الصفي الهندي في النهاية : وكون المفرد المضاف للعموم ، وإن لم يكن منصوصا لهم ، لكن نفيه التسوية بين الإضافة ولام التعريف يقتضي العموم ، والحق أن عموم الإضافة أقوى ، ولهذا لو حلف لا يشرب الماء حنث بشرب القليل منه ; لعدم تناهي أفراده ، ولو حلف لا يشرب ماء البحر لا يحنث إلا بكله . انتهى .
وفي هذا الفرق نظر ، ولا ينافي إفادة إضافة اسم الجنس للعموم ما وقع من الخلاف فيمن فإن من قال : إنها لا تطلق إلا واحدة ، استدل بأن العرف قد خص هذه الصورة وأمثالها عن الموضوع اللغوي ، على أنه قد حكى قال : زوجتي طالق ، وله أربع زوجات الروياني في البحر عن ابن عباس أنها تطلق الأربع جميعا ، بخلاف ما عدا هذه الصورة وأمثالها فإنه يحمل على العموم ، كما لو قال : مالي صدقة ، ومن هذا قوله تعالى : وأحمد بن حنبل أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم وقوله صلى الله عليه وآله وسلم . هو الطهور ماؤه والحل ميتته
[ ص: 357 ] ، وقد صرح الفرع التاسع : الأسماء الموصولة ، كالذي ، والتي ، والذين ، واللاتي ، وذو الطائية ، وجمعها القرافي بأنها من صيغ العموم ، وقال والقاضي عبد الوهاب ابن السمعاني : جميع الأسماء المبهمة تقتضي العموم .
وقال أصحاب الأشعري إنها تجري في بابها مجرى اسم منكور ، كقولنا : رجل ، ويمكن أن يكون زيدا أو عمرا ، فلا يصار إلى أحدهما إلا بدليل ، والإبهام لا يقتضي الاستغراق ، بل يحتاج إلى قرينة ، والحق أنها من صيغ العموم ، كقوله سبحانه : والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك ، إن الذين سبقت لهم منا الحسنى ، إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما وما خرج من ذلك فلقرينة تخصصه عن موضوعه اللغوي .
، كقوله الفرع العاشر : نفي المساواة بين الشيئين لا يستوي أصحاب النار وأصحاب الجنة فذهب جمهور الشافعية ، وطوائف من الأصوليين والفقهاء إلى أنه يقتضي العموم .
وذهبت الحنفية والمعتزلة والغزالي والرازي إلى أنه ليس بعام .
استدل الأولون : بأنه نكرة في سياق النفي ; لأن الجملة نكرة باتفاق النحاة ، وكذلك توصف بها النكرات دون المعارف .
واستدل الرازي في المحصول للآخرين بوجهين :
الأول : أن نفي الاستواء مطلقا أي في الجملة أعم من نفي الاستواء من كل الوجوه ، أو من بعضها ، والدال على القدر المشترك بين الأمرين لا إشعار فيه بهما فلا يلزم من نفيه نفيهما .
الثاني : أنه إما أن يكفي في إطلاق لفظ المساواة الاستواء من بعض الوجوه ، أو لا بد فيه من الاستواء من كل الوجوه ، والأول باطل ، وإلا لوجب إطلاق لفظ المساواة على جميع الأشياء ; لأن كل شيئين لا بد أن يستويا في بعض الأمور من كونهما [ ص: 358 ] معلومين ، وموجودين ، ومذكورين ، وفي سلب ما عداهما عنهما ، ومتى صدق عليه المساوي وجب أن يكذب عليه غير المساوي ; لأنهما في العرف كالمتناقضين ، فإن من قال : هذا يساوي ذاك ، فمن أراد تكذيبه قال لا يساويه ، والمتناقضان لا يصدقان معا ، فوجب أن لا يصدقا على شيئين ألبتة ; لأنهما متساويان ، وغير متساويين ، ولما كان ذلك باطلا علمنا أنه يعتبر في المساواة المساواة من كل الوجوه ، وحينئذ يكفي في نفي المساواة الاستواء من بعض الوجوه ; لأن نقيض الكلي هو الجزئي ، فإذا قلنا لا يستويان لا يفيد نفي الاستواء من جميع الوجوه .
وأجيب عن الدليل الأول : بأن عدم إشعار الأعم بالأخص إنما هو في طريق الإثبات ، لا في طريق النفي ، فإن الأعم يستلزم نفي الأخص ، ولولا ذلك لجاز مثله في كل نفي ، فلا يعلم نفي أبدا إذ يقال في ( لا رجل ) رجل أعم من الرجل بصيغة العموم ، فلا يشعر به ، وهو خلاف ما ثبت بالدليل .
وأجيب عن الدليل الثاني : بأنه إذا قيل لا مساواة فإنما يراد نفي مساواة يصح انتفاؤها ، وإن كان ظاهرا في العموم ، وهو من قبيل ما يخصصه العقل نحو الله خالق كل شيء أي خالق كل شيء يخلق .
والحاصل أن مرجع الخلاف إلى أن المساواة في الإثبات هل مدلولها لغة المشاركة في كل الوجوه ، حتى يكون اللفظ شاملا ، أو مدلولها المساواة في بعض الوجوه ، حتى يصدق بأي وجه ؟ فإن قلنا بالأول لم يكن النفي للعموم ; لأن نقيض الكلي الموجب جزئي سالب ، وإن قلنا بالثاني كان للعموم ; لأن نقيض الجزئي الموجب كلي سالب .
وخلاصة هذا أن صيغة ( لا يستوي ) إما لعموم سلب التسوية أو لسلب عموم التسوية ، فعلى الأول يمتنع ثبوت شيء من أفرادها ، وعلى الثاني لا يمتنع ثبوت البعض ، وهذا يقتضي ترجيح المذهب الثاني ; لأن حرف النفي سابق ، وهو يفيد لا عموم السلب ، وأما الآية التي وقع المثال بها فقد صرح فيها بما يدل على أن النفي باعتبار بعض الأمور ، وذلك قوله تعالى سلب العموم أصحاب الجنة هم الفائزون فإن ذلك يفيد أنهما لا يستويان في الفوز بالجنة .
وقد رجح الصفي الهندي بأن نفي الاستواء من باب المجمل من المتواطئ لا من باب العام ، وتقدمه إلى ترجيح الإجمال . إلكيا الطبري
[ ص: 359 ] الفرع الحادي عشر : إذا وقع الفعل في سياق النفي أو الشرط ، فإن كان غير متعد ، فهل يكون النفي له نفيا لمصدره وهو نكرة فيقتضي العموم أم لا ؟ حكى القرافي عن الشافعية ، والمالكية أنه يعم ، وقال إن القاضي عبد الوهاب في الإفادة نص على ذلك ، وإن كان متعديا ، ولم يصرح بمفعوله نحو لا أكلت ، وإن أكلت ، ولا كان له دلالة على مفعول معين ، فذهبت الشافعية ، والمالكية ، وأبو يوسف ، وغيرهم إلى أنه يعم ، وقال أبو حنيفة : لا يعم ، واختاره القرطبي من المالكية ، والرازي من الشافعية ، وجعله القرطبي من باب الأفعال اللازمة نحو يعطي ويمنع ، فلا يدل على مفعول لا بالخصوص ولا بالعموم . قال الأصفهاني : لا فرق بين المتعدي واللازم ، والخلاف فيهما على السواء .
وظاهر كلام ، إمام الحرمين الجويني ، والغزالي ، والآمدي والصفي الهندي أن الخلاف إنما هو في الفعل المتعدي إذا وقع في سياق النفي أو الشرط ، هل يعم مفاعيله أم لا ، لا في الفعل اللازم فإنه لا يعم .
والذي ينبغي التعويل عليه أنه لا فرق بينهما في نفس مصدريهما ، فيكون النفي لهما نفيا لهما ، ولا فرق بينهما وبين وقوع النكرة في سياق النفي ، وأما فيما عدا المصدر فالفعل المتعدي لا بد له من مفعول به فحذفه مشعر بالتعميم كما تقرر في علم المعاني .
وذكر القرطبي أن القائلين بتعميمه قالوا : لا يدل على جميع ما يمكن أن يكون مفعولا على جهة الجمع بل على جهة البدل قال : وهؤلاء أخذوا الماهية مقيدة ، ولا ينبغي لأبي حنيفة أن ينازع في ذلك .
الفرع الثاني عشر : الأمر للجمع بصيغة الجمع ، كقوله وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة عمومه وخصوصه يكون باعتبار ما يرجع إليه والدليل على ذلك أن السيد إذا أشار إلى جماعة من غلمانه ، وقال : قوموا ، فمن تخلف عن القيام منهم استحق الذم ، وذلك يدل على أن اللفظ للشمول ، فلا يجوز أن يضاف ذلك إلى القرينة .
قال في المحصول : لأن تلك القرينة إن كانت من لوازم هذه الصيغة فقد حصل مرادنا ، وإلا فلنفرض هذه الصيغة مجردة عنها ، ويعود الكلام . انتهى .
[ ص: 360 ] وممن صرح أن عموم صيغة الجمع في الأمر ، وخصوصها يكون باعتبار مرجعها الإمام الرازي في المحصول ، والصفي الهندي في النهاية ، وذكر القاضي عبد الجبار عن الشيخ أبي عبد الله البصري أن قول القائل : افعلوا ، يحمل على الاستغراق ، وقال أبو الحسين البصري : الأولى أن يصرف إلى المخاطبين ، سواء كانوا ثلاثة أو أكثر ، وأطلق في التقريب أن المطلقات لا عموم فيها . سليم الرازي
فائدة :
قال ، إمام الحرمين الجويني وابن القشيري : أن أسماء الشرط ، والنكرة في النفي ، وادعيا القطع بوضع ذلك للعموم . أعلى صيغ العموم
وصرح الرازي في المحصول أن أعلاها أسماء الشرط ، والاستفهام ، ثم النكرة المنفية لدلالتها بالقرينة ، لا بالوضع .
وعكس الصفي الهندي فقدم النكرة المنفية على الكل .
وقال ابن السمعاني : أبين وجوه العموم ألفاظ الجموع ، ثم اسم الجنس المعرف باللام ، وظاهره أن الإضافة دون ذلك في الرتبة .
وعكس الإمام الرازي في تفسيره فقال : الإضافة أدل على العموم من الألف ، واللام ، والنكرة المنفية أدل على العموم منها إذا كانت في سياق النفي ، والتي بـ " من " أدل من المجردة عنها .
قال أبو علي الفارسي : إن مجيء أسماء الأجناس معرفة بالألف واللام أكثر من مجيئها مضافة .
وقال في التلويح : إلكيا الطبري : ألفاظ العموم أربعة
أحدها : عام بصيغته ومعناه ، كالرجال والنساء .
والثاني : عام بمعناه لا بصيغته ، كالرهط ونحوه من أسماء الأجناس ، قال : وهذا لا خلاف فيه .
والثالث : ألفاظ مبهمة نحو ما ، ومن ، وهذا يعم كل أحد .
والرابع : النكرة في سياق النفي ، نحو لم أر رجلا ، وذلك يعم لضرورة صحة الكلام وتحقيق غرض المتكلم من الإفهام إلا أنه لا يتناول الجميع بصيغته .
فالعموم فيه من القرينة ; فلهذا لم يختلفوا فيه ، وقد قدمنا في الفرع الثالث ما يفيد أن لفظ ( كل ) أقوى صيغ العموم .