في القرآن آيات قريبة المعنى ظاهرة الدلالة، بل إن وضوح معناها وظهوره يكاد لا يخفى على أحد، وآيات من هذا النوع تذكر قضية لا يختلف فيها اثنان، وهي أمرٌ بَدَهيّ يدركه الإِنسان من فوره، والمتأمل يقف متسائلاً، عن الحكمة في ذكرها على هذه الدرجة من الوضوح؟ ولا جرم أن وراء ذلك حكمة، ولا بد ثمة من فائدة، وإلا كان حشواً يتنزه عنه كلامُ البلغاء فضلاً عن كلام رب العالمين.
تعريف البداهة
البداهة أول كل شيء، وما يفجأ من الأمر، والبديهة: المعرفة يجدها الإِنسان في نفسه من غير إعمالٍ للفكر ولا علمٍ بسببها. والبديهة قضية لا تحتاج في تأييدها إلى قضايا أبسط منها، مثل: أنصاف الأشياء المتساوية متساوية.
وقد عَدَّ ابن حزم من معارف النفس ما أدركته بحواسها الخمس، ثم عَدَّ الإدراك السادس عِلْمَها بالبديهيات، ومَثَّلَ لذلك بعِلْمِها أن الجزء أَقل من الكُلَّ، وأنَ الضِّدين لا يجتمعان، وأنه لا يكون فعل إلا لفاعل، وغير ذلك، ثم وصفها بأنها أوائل العقل التي لا يختلف فيها عقل، وليس يدري أحد كيف وقع العلمُ بها، وأنها ضرورات أوقعها الله في النفس، ولا سبيل إلى الاستدلال البتة إلا من هذه المقدمات، ولا يصح شيء إلا بالرد إليها، فما شهدت له مقدمة من هذه المقدمات بالصحة، فهو صحيح متيقن، وما لم تشهد له بالصحة، فهو باطل ساقط، إلا أن الرجوع إليها قد يكون من قرب ومن بعد، فما كان من قرب فهو أظهر إلى كل نفس وأمكن للفهم، وكلما بعدت المقدمات المذكورة صعب العمل في الاستدلال حتى يقع في ذلك الغلط إلا للفَهِم القوي الفَهْم والتمييز.
وقال الجرجاني: "البديهي: هو الذي لا يتوقف حصوله على نظر وكسب، سواء احتاج إلى شيء آخر من حدسٍ أو تجربة أو غير ذلك أو لم يحتج، فيرادف الضروري. وقد يراد به ما لا يحتاج توجه العقل إلى شيء أصلاً، فيكون أخص من الضروري كتصور الحرارة والبرودة، وكالتصديق بأن النفي والإثبات لا يجتمعان، ولا يرتفعان".
والمراد بالبدهيات في القرآن الآيات التي يذكر فيها لازم ما سبقه من كلام، أو آلته، أو نتيجة حسابية لعددين، لا يحتاج جمعُهما لغير توجه العقل توجها أوليَّاً.
وقد يعتقد كثير من الناس أنَّ البدهيات بهذا المعنى لم ترد في القرآن إلا قليلاً، والحق أنه ورد شي كثير من الآيات، يمر عليها كثير من التالين للقرآن من غير أن يكون في إدراك معناها وقفة تأمل وتفكر، فيمرون عليها سريعاً، وكأن قوة ظهور معناها عامل على سرعة تجاوزها، وحق هذه الآيات أن نقف عندها طويلاً، لا لاستظهار معناها، فهذا قد كفيناه، وإنَّما للتدبر والتفكر في سِرِّ إظهار معناها هذا الظهور وحكمةِ ذلك.
ولكثير من المفسرين وقفات عند مثل هذه الآيات طويلة عند بعضهم، وقصيرة عند آخرين، وهم حين يتناولونها فإنما يتناولونها آحاداً من غير مقارنة بينها، أو دراسة لموضوعها، ونَجدُ أنَّ مثل هذه الوقفات تظهر عند المهتمين في تفاسيرهم بالبلاغة واللغة؛ إذ ثمة صلة وثيقة بين البدهيات وبين البلاغة.
أنواع البدهيات
البدهيات من حيث هي بدهية أنواع ثلاثة: بدهية حسابية. وبدهية لغوية. وبدهية عادية.
أولاً: البدهية الحسابية
تنقسم إلى قسمين:
- الأول: ذكر عددين مذكورين تفصيلاً يدرك العقل مجموعهما من فوره، ولا يحتاج إلى ذكرِ مجموعهما. وفي القرآن من هذا النوع آيتان:
* الأولى: قوله تعالى: {فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم تلك عشرة كاملة} (البقرة:196). فقوله تعالى: {تلك عشرة كاملة} جمع للثلاثة والسبعة، وهي نتيجة يدركها العقل لأول وهلة من غير أن يحتاج إلى أن تُجمع له ليسرها وحضورها في الذهن.
ولسائل أن يسأل عن الحكمة في إظهارها مع ظهورها؟ وللعلماء في بيان هذه الحكمة أقوال كثيرة فاضت قرائحهم في جلائها، والمصيب فيهم -وإن اختلفوا- غير واحد، بل قد يكون الصواب حليفهم جميعاً؛ فإن الآية الواحدة قد تجمع وجوهاً بلاغية مختلفة؛ لأن الأوجه البلاغية لا تتزاحم. ومن أبرز ما قيل في هذه الآية:
- ما قاله الزمخشري: "فإن قلت: فما فائدة الفذلكة؟ قلت: الواو قد تجيء للإباحة نحو قولك "جالس الحسن وابن سيرين"، ألا ترى أنه لو جالسهما جميعاً أو واحداً منهما كان ممتثلاً، ففذلكت نفياً لتوهم الإباحة". وتعقبه أبو حيان، فقال: "وفيه نظر؛ لأنه لا تتوهم الإباحة هنا؛ لأن السياق إنما هو سياق إيجاب، وهو ينافي الإباحة، ولا ينافي التخيير، لأن التخيير قد يكون في الواجبات". ونقل أبو حيان عن ابن الباذش جواباً، ووصفه بأنه أحسن الأقاويل، حيث قال: "أتى بعشرة توطئة للخبر بعدها، لا أنها هي الخبر المستقل به فائدة الإسناد، فجيء بها للتوكيد كما تقول: "زيد رجل صالح "، أي: أن إتيانك بلفظ (رجل) للتوصل بها إلى وصفه بالصالح، وكذا جاءت كلمة (عشرة) توطئة لوصف الثلاثة والسبعة بالكمال.
- ونقل الزمخشري وأبو حيان عن ابن عرفه قوله: "مذهب العرب إذا ذكروا عددين أن يجملوهما"، وحسَّن الزمخشري هذا القول، وقال: "وفائدة الفذلكة في كل حساب أن يُعلم العدد جملة كما عُلم تفصيلاً؛ ليحاط به من جهتين، فيتأكد العلم، وفي أمثال العرب: "علمان خير من علم". ولا يزال هذا هو السائد عند العرب وغيرهم في ذكر الأعداد في الحساب، فإنهم يذكرون الأرقام مفردة، ثم يكتبونها مجموعة بالأرقام، ويتبعون ذلك كتابة مجموعها بالحروف، ثم يؤكدون الجمع بقولهم: (فقط) أو (لا غير) ويفعل هذا أعرف الناس بالحساب.
* الآية الثانية: قوله تعالى: {وواعدنا موسى ثلاثين ليلة وأتممناها بعشر فتم ميقات ربه أربعين ليلة} (الأعراف:142)، فقوله تعالى: {أربعين ليلة} حاصل العددين: ثلاثين ليلة وعشر، وكل أحد يعلم أن الثلاثين مع العشرة تكون أربعين. وللعلماء في توجيه ذلك عدة أقوال منها:
- قول أبي حيان: "والذي يظهر أن هذه الجملة تأكيد وإيضاح". وكذا قول زكريا الأنصاري: " فائدته التوكيد". وقال الرازي: "فيه فوائد إحداها التأكيد، ومن فوائده إزالة التوهم أن تكون العشر من نفس الثلاثين، فلما ذكر الأربعين زال الإيهام"؛ لأنه يحتمل أتممناها بعشر من الثلاثين كأنه كان عشرين، ثم أتمه بعشر فصار ثلاثين، فأزال هذا الإيهام، بأن الإتمام إلى الثلاثين، وبين أنه إلى الأربعين. ومن فوائده إزالة توهم أن تكون عشر ساعات أي أتممناها بعشر ساعات. ومن فوائده إزالة اللبس في دخول العشر في المواعدة؛ إذ أن النص في المواعدة على الثلاثين، وأتت العشر بعدها فدخلها الاحتمال أن تكون من غير المواعدة، فأعاد ذكر الأربعين نفياً لهذا الاحتمال، وليُعلم أن جميع العدد للمواعدة.
القسم الثاني من البدهية الحسابية: ذكر عددين منسوبين إلى بعضهما، ثم ذكر عددين آخرين بالنسبة نفسها، بحيث يغني ذكر الأول عن الثاني، ويكون الثاني بدهية للأول. ومن هذا النوع في القرآن آيتان أيضاً:
* الأولى: قوله سبحانه: {يا أيها النبي حرض المؤمنين على القتال إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين وإن يكن منكم مائة يغلبوا ألفا من الذين كفروا بأنهم قوم لا يفقهون * الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفا فإن يكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين وإن يكن منكم ألف يغلبوا ألفين بإذن الله والله مع الصابرين} (الأنفال:65-66). فقوله: {وإن يكن منكم مائة يغلبوا ألفا} فهم مضمونه مما قبله، وكذا قوله بعد التخفيف: {وإن يكن منكم ألف يغلبوا ألفين} مفهوم من قوله قبله: {فإن يكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين} وقد أشار بعض المفسرين إلى حكمة ذلك، فقالوا:
- إنه لزيادة التقرير المفيدة لزيادة الاطمئنان، قال أبو السعود: "وقوله تعالى: {وإن يكن منكم مائة يغلبوا ألفا} مع إنفهام مضمونه مما قبله لكون كل منهما عدة بتأييد الواحد على العشرة؛ لزيادة التقرير المفيدة لزيادة الاطمئنان، على أنه قد يجري بين الجمعين القليلين ما لا يجري بين الجمعين الكثيرين مع أن التفاوت فيما بين كل من الجمعين القليلين والكثيرين على نسبة واحدة، فبين أن ذلك لا يتفاوت في الصورتين".
- وقريب من هذا المعنى ما ذهب إليه محمد بن أبي بكر الرازي، حيث قال: "فإن قيل: ما فائدة تكرار المعنى الواحد في مقاومة الجماعة لأكثر منها قبل التخفيف وبعده، قلنا: فائدته الدلالة على أن الحال مع القلة والكثرة واحدة لا تتفاوت، بل كما ينصر الله تعالى العشرين على المئتين ينصر المئة على الألف، وكما ينصر المئة على المئتين ينصر الألف على الألفين". وقال نحو هذا الزمخشري، وزكريا الأنصاري، والشوكاني.
- وقيل: إن التكرار لمطابقة الواقع في عدد السرية، والغزوة في ابتداء الإسلام وبعد اتساع نطاقه؛ وإليه ذهب أبو حيان، حيث قال: "ومناسبة هذه الأعداد أن فرضية الثبات أو ندبيته كان أولاً في ابتداء الإسلام، فكان العشرون تمثيلاً للسرية، والمئة تمثيلاً للجيش، فلما اتسع نطاق الإسلام وذلك بعد زمان، كان المئة تمثيلاً للسرايا، والألف تمثيلاً للجيش".
* الآية الثانية: قوله تعالى: {ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ولا خمسة إلا هو سادسهم ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا هو معهم أين ما كانوا} (المجادلة:7) فقوله سبحانه: {ولا خمسة إلا هو سادسهم} معلوم من قوله سبحانه: {ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم}، فهذا يغني عن ذاك، وقد علل المفسرين ذلك بوجوه:
- أن الآية نزلت في قوم من المنافقين اجتمعوا على التناجي مغايظة للمؤمنين، وكانوا على هذين العددين ثلاثة وخمسة.
- أن العدد الفرد أشرف من الزوج؛ لأن الله تعالى وتر يحب الوتر. وأقل عدد وتر يكون بينه مناجاة هو الثلاثة ثم الخمسة.
- أنه قصد أن يذكر ما جرت عليه العادة من أعداد أهل النجوى المجتمعون للشورى، والمنتدبون لذلك ليسوا بكل أحد، وإنما هم طائفة مجتباة من أولي النهى والأحلام، ورهط من أهل الرأي والتجارب، وأول عددهم الاثنان، فصاعداً إلى خمسة إلى ستة إلى ما اقتضته الحال وحكم الاستصواب.
ثانياً: البدهية اللغوية
يُقصد بها البدهية الدال على بدهيتها المدلول اللغوي لكلمة أو جملة سابقة، والأمثلة على ذلك كثيرة، منها:
* قوله تعالى: {أو كصيب من السماء فيه ظلمات ورعد وبرق} (البقرة:19) في لسان العرب: "الصوب: نزول المطر، ثم قال: والصيب: السحاب ذو الصوب"، وقال أبو حيان: "الصيب: المطر...والسحاب أيضاً". وسواء كان (الصيب} المطر أو السحاب، فإن من المعلوم أنهما من السماء، فما الفائدة من قوله: {من السماء} وهو معلوم من المدلول اللغوي لكلمة (صيب)؟ للعلماء في ذلك أقوال:
- قال ابن عاشور: "الذي يظهر لي إن جعلنا قوله: {من السماء} قيداً لـ (الصيب): أن المراد من السماء أعلى الارتفاع، والمطر إذا كان من سمت مقابل وكان عالياً كان أدوم، بخلاف الذي يكون من جوانب الجو، ويكون قريباً من الأرض غير مرتفع". وقال أيضاً: "والظاهر أن قوله: {من السماء} ليس بقيد لـ (الصيب) وإنما هو وصف كاشف، جيء به لزيادة استحضار صورة الصيب في هذا التمثيل؛ إذ المقام مقام إطناب".
- وقال الألوسي: "وعندي أن الذكر -يعني ذكر السماء- يحتمل أن يكون أيضاً للتهويل، والإشارة إلى أن ما يؤذيهم جاء من فوق رؤوسهم، وذلك أبلغ في الإيذاء، كما يشير إليه قوله تعالى: {يصب من فوق رؤوسهم الحميم} (الحج:19) وكثيراً ما نجد أن المرء يعتني بحفظ رأسه أكثر مما يعتني بحفظ سائر أطرافه، حتى أن المستطيع من الناس يتخذ طيلساناً لذلك".
* قوله تعالى: {ولا تعثوا في الأرض مفسدين} (البقرة:60) فقوله: {مفسدين} بدهية لغوية؛ إذ يدل عليه المدلول اللغوي لقوله: {ولا تعثوا} والعثو: أشد الفساد، فكأنه قال: (ولا تفسدوا في الأرض مفسدين). وقد أجاب الرازي بأن معناه: "ولا تعثوا في الأرض بالكفر، وأنتم مفسدون بسائر المعاصي". ومنهم من تحاشى ذلك، ففسر (العثو) بغير الفساد، فنقل أبو حيان عن ابن عباس رضي الله عنهما أن معناه: "ولا تسعوا"، وقال قتادة: "ولا تسيروا"، وقيل: معناه لا تخالطوا المفسدين، وقيل: معناه لا تتمادوا في فسادكم، وقيل: لا تطغوا.
وقد أشار ابن عاشور إلى علة أخرى لتفسير (العثو) بمعنى غير الفساد، إذ قال: "وفي الكشاف جعل معنى (لا تعثوا): لا تتمادوا في فسادكم، فجعل المنهي عنه هو الدوام على الفعل، وكأنه يأبى صحة الحال المؤكدة للجملة الفعلية، فحاول المغايرة بين {ولا تعثوا} وبين {مفسدين} تجنباً للتأكيد، وذلك هو مذهب الجمهور، لكن كثيراً من المحققين خالف ذلك، واختار ابن مالك التفصيل؛ فإن كان معنى الحال هو معنى العامل جعلها شبيهة بالمؤكدة لصاحبها كما هنا، وخص المؤكدة لمضمون الجملة الواقعة بعد الاسمية، نحو زيد أبوك عطوفاً". وقد اختار ابن عاشور نفسه أن {مفسدين} حال مؤكدة لعاملها.
* قوله تعالى: {وقال الله لا تتخذوا إلهين اثنين إنما هو إله واحد فإياي فارهبون} (النحل:51) البدهية هنا أن كلمة {إلهين} مثنى، وهو يدل على التثنية، ومع هذا قال بعده: {اثنين} وقد جلَّا الزمخشري الوجه البلاغي لهذا الأسلوب، فقال: "فإن قلت: إنما جمعوا بين العدد والمعدود فيما وراء الواحد والاثنين فقالوا: "عندي رجال ثلاثة، وأفراس أربعة"؛ لأن المعدود عارٍ عن الدلالة على العدد الخاص، وأما رجل ورجلان، وفرس وفرسان، فمعدودان، فيهما دلالة على العدد، فلا حاجة إلى أن يقال: (رجل واحد، ورجلان اثنان) فما وجه قوله: {إلهين اثنين}؟ قلت: الاسم الحامل لمعنى الإفراد والتثنية دال على شيئين: على الجنسية والعدد المخصوص، فإذا أريدت الدلالة على أن المعني به منهما والذي يساق إليه الحديث هو العدد شُفِعَ بما يؤكده، فدل به على القصد إليه والعناية به، ألا ترى أنك لو قلت: (إنما هو إله) ولم تؤكده بواحد لم يحسن، وخُيِّل إنك تثبت الإلهية لا الوحدانية".
وذكر الرازي وجوهاً مختلفة لذلك، مال إلى أحدها، فقال: "الأقرب عندي أن الشيء إذا كان مستنكَراً مستقبَحاً، فمن أراد المبالغة في التنفير عنه بعبارات كثيرة ليصير توالي تلك العبارات سبباً لوقوف العقل على ما فيه من القبح". ثم ذكر قولاً آخر هو أن قوله: {إلهين} لفظ واحد يدل على أمرين: ثبوت الإله، وثبوت التعدد، فإذا قيل: لا تتخذوا إلهين، لم يعرف من هذا اللفظ أن النهي وقع عن إثبات الإله أو عن إثبات التعدد أو مجموعهما، فلما قال: {لا تتخذوا إلهين اثنين} ثبت أن قوله: {لا تتخذوا إلهين} نهي عن إثبات التعدد فقط". وذكر وجوهاً أخرى.
* قوله تعالى: {فخر عليهم السقف من فوقهم} (النحل:26) من المعلوم أن السقف لا يخر إلا من فوق، أجاب الرازي على هذا بقوله: "وجوابه من وجهين: الأول: أن يكون المقصود التأكيد. الثاني: ربما خر السقف ولا يكون تحته أحد، فلما قال: {فخر عليهم السقف من فوقهم} دل هذا الكلام على أنهم كانوا تحته، وحينئذ يفيد هذا الكلام أن الأبنية قد تهدمت وهم ماتوا تحتها". وبهذا قال أبو حيان.
* قوله تعالى: {سبحان الذي أسرى بعبده ليلا} (الإسراء:1) و(الإسراء) من السرى، كالهدى، وهو سير عامة الليل، وإذا كان الإسراء لا يكون إلا بالليل فما معنى ذكر الليل هنا؟ وقف كثير من المفسرين عند هذا المعنى، وكأنهم اتفقوا على التعليل بأنه أراد بقوله {ليلا} بلفظ التنكير تقليل مدة الإسراء، وأنه أسري به في بعض الليل من مكة إلى الشام مسيرة أربعين ليلة. ومال ابن عاشور إلى أنه ذكر (الليل) للتوسل بذكره إلى تنكيره المفيد للتعظيم، فتنكير (ليلاً) للتعظيم بقرينة الاعتناء بذكره مع علمه من فعل "أسرى"، وبقرينة عدم تعريفه، أي هو ليل عظيم باعتبار جَعْلِه زمناً لذلك السرى العظيم، فقام التنكير هنا مقام ما يدل على التعظيم، ألا ترى كيف احتيج إلى الدلالة على التعظيم بصيغه خاصة في قوله تعالى: {إنا أنزلناه في ليلة القدر * وما أدراك ما ليلة القدر} (القدر:1-2) إذ وقعت ليلة القدر غير منكرة.
ثالثاً: البدهية العادية
وهي أن تدل جملة في آية قرآنية على أمر عادي بدهي لا يختلف فيه اثنان، أو تكون الجملة الثانية معلومة قطعاً من الجملة الأولى، بحيث توجب العادة ذلك. فالبداهة هنا قد تكون في جملة واحدة، وقد تكون في جملتين. ويظهر أيضاً نوع من التداخل في بعض البدهيات من هذا النوع مع البدهية اللغوية، وذلك أن بدهيتها وإن كانت راجعة إلى العادة، فإن اللغة قد صبغتها بصبغتها، فهي بدهية عادية لغوية، فمثلاً قوله تعالى عن عيسى عليه السلام: {قالوا كيف نكلم من كان في المهد صبيا} (مريم:29) فمن المعلوم لغة وعادة أن كل أحد كان في المهد صبياً.
وهذا النوع من البدهيات ينقسم إلى عدة أقسام، نذكر منها:
- الجمع بين الشيء ولازمه. ومثاله قوله تعالى: {ويقتلون النبيين بغير الحق} (البقرة:61) فمن المعلوم أن قتل النبيين لا يكون بحق مطلقاً، فمن لازم يقتلون النبيين، أن يكون بغير الحق، إذ لا يجوز أن يُقْتَلَ نبي بحق أبداً. فقيل: معناه {بغير الحق} في اعتقادهم، ولأن التصريح بصفة فعلهم القبيح أبلغ في ذمهم، وإن كانت تلك الصفة لازمة للفعل، كما في عكسه كقوله سبحانه: {قال رب احكم بالحق} (الأنبياء:112) لزيادة معنى التصريح بالصفة، كذا قال الرازي، وبنحوه قال الزمخشري، وأبو حيان، والآلوسي، وابن عاشور، وعلى هذا فـ (اللام) عندهم في {الحق} للعهد. وقيل إنها للجنس والمراد بغير حق أصلاً؛ لأن لام الجنس المبهم كالنكرة، ويؤيده ما في آل عمران {بغير حق} (آل عمران:21) فيفيد أنه لم يكن حقاً باعتقادهم أيضاً، قال بهذا الآلوسي، وقال: "إنه الأظهر". وقيل: قوله: {بغير حق} تأكيد؛ لأن قتل النبيين لا يكون إلا بغير حق، فهو كقوله: {ولكن تعمى القلوب التي في الصدور} (الحج:46).
- الجمع بين الشيء وآلته. كقوله تعالى: {وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم} (الأنعام:38)، وكل طائر إنما يطير بجناحيه، فهما آلة طيرانه التي لا يطير بدونهما، فما الفائدة إذن من ذكر الجناحين؟ قال بعضهم: "إن ذكر الجناحين للتأكيد، كقولهم: "نعجة أنثى"، وكما يقال: "كلمته بفمي، ومشيت إليه برجلي". وقيل: فائدة ذلك نفي توهم المجاز، فإنه يقال: "طار فلان في أمر كذا: إذا أسرع فيه، وطار الفرس: إذا أسرع الجري". قال أبو حيان: "ألا ترى إلى استعارة الطائر لـ (العمل) في قوله: {وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه} (الإسراء:13) وقولهم: "طار لفلان كذا في القسمة: أي سهمه، وطائر السعد والنحس، وفيه تنبيه على تصور هيئته على حالة الطيران، واستحضار لمشاهدة هذا الفعل الغريب"، وقال الرازي: "جاء ذكر الجناحين ليتمحض هذا الكلام في الطير". ومن فوائد ذكر الجناحين زيادة التعميم والإحاطة، كأنه قال: جميع الطيور الطائرة.
- إثبات الشيء ونفي نقيضه. ومثاله قوله تعالى: {أموات غير أحياء} (النحل:21)، فإن الموت والحياة متضادان لا يرتفعان معاً ولا يلتقيان، فنفي أحدهما إثبات للآخر، وعلى هذا يكفي وصفهم بأنهم أموات لنعلم أنهم غير أحياء، إلا أنه هنا نفى الحياة، وهو معلوم من وصفهم أولاً بالموت. وفائدة ذلك بيان أنها أموات لا يعقب موتها حياة، احترازاً عن أموات يعقب موتها حياة، كالنطف والبيض والأجساد الميتة، وذلك أبلغ في موتها، كأنه قال: "أموات في الحال غير أحياء في المآل"، قال الرازي: "الإله هو الحي الذي لا يحصل عقيب حياته موت، وهذه الأصنام أموات لا يحصل عقيب موتها الحياة". ومن الأجوبة أيضاً قولهم: إنما قال: {غير أحياء} ليعلم أنه أراد أمواتاً في الحال، لا أنها ستموت، كما في قوله تعالى: {إنك ميت وإنهم ميتون} (الزمر:30).
- الأمر بالشيء والنهي عن نقيضه. وذلك كقوله تعالى: {وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه} (آل عمران:187) فـ (البيان) يضاد (الكتمان) فلما أمر بالبيان كان الأمر به نهياً عن الكتمان، فما الفائدة في ذكر النهي عن الكتمان بعد الأمر بالبيان؟ ذكر العلماء وجوهاً لهذا، منها: أن المراد من البيان: ذكر تلك الآيات الدالة على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم من التوراة والإنجيل، والمراد من النهي عن الكتمان أن لا يلقوا فيها التأويلات الفاسدة والشبهات المعطلة.
- الجملة الخبرية القطعية الثبوت. والمراد بها الجملة التي تفيد معلومة لا يختلف فيها اثنان، ولا تحتاج إلى تقرير، وتبقى الحكمة في إيرادها، وذلك كقوله تعالى مخاطباً نبيه صلى الله عليه وسلم: {وما كنت لديهم إذ يلقون أقلامهم أيهم يكفل مريم} (آل عمران:44) وذلك أنه من المعلوم قطعاً أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يكن حاضراً معهم، فما فائدة هذا الإخبار؟ قلنا: إن معرفة الحوادث لا تكون إلَّا بطرق أربعة: (القراءة. الرواية. المشاهدة. الوحي) وقد كانوا يعلمون قطعاً أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يكن من أهل القراءة، ولا من أهل الرواية؛ إذ لم يخالط أهل الكتاب، ولم يتلق عنهم علماً، وهم ينكرون الوحي إليه صلى الله عليه وسلم، فلم يبق إلا المشاهدة، وهي مستحيلة، فنفاها تهكماً بهم إذ أنكروا الوحي إليه مع علمهم أنه لا قراءة له ولا رواية، والمقصود تحقيق كون الإخبار بهذه القصة وغيرها عن وحي على سبيل التهكم بمنكريه، كأنه قيل: إن رسولنا أخبركم بما لا سبيل إلى معرفته بالعقل مع اعترافكم بأنه لم يسمعه، ولم يقرأه في كتاب، وتنكرون أنه وحي، فلم يبق مع هذا ما يحتاج إلى النفي سوى المشاهدة التي هي أظهر الأمور انتفاء لاستحالتها المعلومة عند جميع العقلاء، ونظيره في قصة موسى {وما كنت بجانب الغربي} (القصص:44) {وما كنت بجانب الطور} (القصص:46) وفي قصة يوسف {وما كنت لديهم إذ أجمعوا أمرهم} (يوسف:102).
وما تقدم ليس إلا إشارات سريعة لبحر واسع، لعلم طريف، كل جزء منه يحتاج إلى وقفة طويلة، بل وقفات ننظر فيها، ونتفكر، ونتأمل ونتدبر، هذا البناء المتماسك، والصرح العظيم، الذي لا نرى فيه عوجاً ولا أمتاً، ذلك أنه كلام العزيز الخبير الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد.
* مادة المقال مستفادة من كتاب (البدهيات في القرآن الكريم) للدكتور فهد الرومي.