امتاز القرآن الكريم بتنوع أساليب خطابه؛ إذ من الثابت أن التنوع في أساليب الخطاب له من الأثر في نفس المتلقي والقبول في عقل المخاطب ما ليس للأسلوب الواحد، ولا غرو في ذلك؛ فالقرآن خطاب الخالق إلى المخلوقين، وخطاب السماء إلى الأرض، وهو الخطاب الخالد ما دامت السماوات والأرض، وغيره من الخطابات خطابات قاصرة فانية زائلة.
ومن أساليب القرآن الكريم في خطاب المكلفين أسلوب التنبيه، وهو أسلوب الغرض منه تنبيه السامع والمخاطب لمعنى يراد تقريره عليه، أو لأمر يقصد تذكيره به، وهو أشبه ما يكون بالمنبه المادي، الذي ينبه الأذن إلى أمر خطير، أو شأن ذي بال.
أدوات التنبيه
لأسلوب التنبيه أربع أدوات، هي: الهاء، و(ألا) بتخفيف اللام، و(أما) و(يا).
أما (الهاء) فهي أم الباب، وتدخل على أربعة أمور:
أحدها: أداة الإشارة (ذا) فنقول: هذا، هذه، هذان، هاتان...
الثاني: ضمير الرفع المخبَر عنه باسم الإشارة، نحو قوله سبحانه: {ها أنتم أولاء} (النساء:109).
الثالث: بعد (أي) في النداء، نحو: {يا أيها الذين آمنوا}، وهي في هذا واجبة للتنبيه على أنه المقصود بالنداء.
الرابع: اسم الله في القسم عند حذف حرف القسم، يقال: ها ألله، بقطع الهمزة ووصلها، وكلاهما مع إثبات ألفها وحذفها.
والأداة (ألا) بفتح الهمزة وتخفيف اللام، وهي أداة استفتاح، يُستفتح بها الكلام، وتفيد التنبيه وطلب الشيء بلين ورفق، وتفيد مع التنبيه، تحقق ما بعدها.
و(أمَا) بفتح الميم المخففة، يُستفتح بها الكلام، وتفيد تنبيه السامع إلى ما يُلقى إليه من الكلام.
و(يا) أصلها حرف نداء، فإن لم يكن بعدها منادى، كانت حرفاً يقصد به تنبيه السامع إلى ما بعدها. ويكثر دخولها في الجمل المقصود منها إنشاء معنى في نفس المتكلم دون الإخبار، فيكون اقتران ذلك الإنشاء بحرف التنبيه إعلاناً بما في نفس المتكلم من مدلول الإنشاء، كقولهم: يا خيبة، ويا فرحي، ويا للهول.
وهذه الأدوات ذكرت في القرآن، سوى الأداة (أما) مخففة الميم، فلم يرد لها ذكر فيه.
أساليب التنبيه في القرآن
من خلال تتبعنا لأساليب التنبيه في القرآن، وجدنا أن القرآن يعتمد عدة أساليب بغرض تنبيه المخاطب، ومن الأساليب التي اهتدينا إليها ما يلي:
الأسلوب الأول: الإتيان بالأحرف المقطعة في بداية بعض السور، كقوله سبحانه: {الم} {طس} {حم} فالإتيان بأمثال هذه الحروف يشد انتباه السامع والقارئ على حد سواء بطريقتين مجتمعتين قبل البدء بقراءة ما بعدها، هما: (الحروف المبهمة) و(الأداء )؛ ذلك أن البدء بحروف متقطعة ذات جرس مختلف، يجعل المتلقي يرهف السمع إليها لغرابتها، فلا يضيع عليه ما بعدها. ومن ناحية أخرى نجد المتلقي يتساءل في قرارة نفسه عن معناها، وطريقة أدائها ليصل إلى تأويلات عدة، منها: أن هذا القرآن مؤلف من هذه الحروف وأخواتها، فإن استطعت أن تأتي بمثلها فافعل، وإلا ثبت أنها من لدن عليم خبير.
قال الخويِّي بخصوص الإتيان بالحروف المقطعة في فاتحة بعض السور: "القول بأنها تنبيهات جيد؛ لأن القرآن كلام عزيز، وفوائده عزيزة، فينبغي أن يرد على سمع متنبه، فكان من الجائز أن يكون الله قد علم في بعض الأوقات كون النبي صلى الله عليه وسلم في عالم البشر مشغولاً، فأمر جبريل بأن يقول عند نزوله: {الم} و{الر} و{حم} ليسمع النبي صوت جبريل، فيُقبل عليه، ويصغي إليه. وإنما لم تستعمل الكلمات المشهورة في التنبيه؛ لأنها من الألفاظ التي يتعارفها الناس في كلامهم، والقرآن كلام لا يشبه الكلام، فناسب أن يؤتى فيه بألفاظ تنبيه، لم تُعهد؛ لتكون أبلغ في قرع سمعه".
وقال الرازي: "الحروف تنبيهات، قُدمت على القرآن؛ ليبقى السامع مقبلاً على استماع ما يرد عليه، فلا يفوته شيء من الكلام الرائق، والمعنى الفائق".
وقالت بنت الشاطئ في الغرض من الإتيان بالحروف المقطعة: "ثم إن تلك الحروف بحيث تكون أتم في إفادة المقصود الذي هو التنبيه، من تقديم الحروف التي لها معنى؛ لأن المقدَّم إذا كان كلاماً منظوماً، وقولاً مفهوماً، فربما يظن السامع أنه كل المقصود، ولا كلام بعد ذلك، فيقطع الالتفات عنه. أما إذا سمع صوتاً بلا معنى، فإنه يُقبل ولا يقطع نظره عنه، ما لم يسمع غيره؛ لجزمه بأن ما سمعه ليس هو المقصود. فإذن، تقديم الحروف التي لا معنى لها في هذا الموضع، على الكلام المقصود، فيه حكمة بالغة".
وليس يخفى أن عدداً لا بأس به من السور القرآنية قد صُدِّرت بالحروف المقطعة، أو ما يسميه المفسرون حروف الاستفتاح.
الأسلوب الثاني: استخدام (هاء) التنبيه بعد أداة النداء (يا) وهذا كثير في القرآن، قال الزمخشري: "إن كل ما نادى اللَّه له عباده -من أوامره ونواهيه، وعظاته وزواجره، ووعده ووعيده، واقتصاص أخبار الأمم الدارجة عليهم، وغير ذلك مما أنطق به كتابه- أمور عظام، وخطوب جسام، ومعان عليهم أن يتيقظوا لها، ويميلوا بقلوبهم وبصائرهم إليها". ومن أمثلة هذا الأسلوب قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته} (آل عمران:102) فإن تقوى الله حق تقاته أمر عظيم فقدم عليها النداء الذي يكون للبعيد الغافل عنها تنبيهاً وتحذيراً. وقد روي عن ابن مسعود رضي الله عنه قوله: (إذا سمعت الله يقول: {يا أيها الذين آمنوا} فأرعها سمعك؛ فإنه خير تؤمر به، أو شر تُنهى عنه) رواه سعيد بن منصور.
ومن هذا القبيل توجيه الخطاب للناس كافة نحو قوله تعالى: {يا أيها الناس اعبدوا ربكم} (البقرة:21)، وقوله سبحانه: {يا أيها الناس اذكروا نعمت الله عليكم} (فاطر:3)، وقوله عز وجل: {يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله} (فاطر:15) فـ (الهاء) في هذه الآيات ونحوها بعد أداة النداء (يا) والحرف (أي) يراد منها التنبيه لأمر عظيم.
الأسلوب الثالث: أسلوب الاستفهام، وهذا الأسلوب كثير في القرآن من ذلك قوله تعالى: {وما تلك بيمينك يا موسى} (طه:17) فهذا سؤال مستعمل في التنبيه إلى أهمية المسؤول عنه، قال الزجاج: "ومعنى سؤال موسى عما في يده من العصا التنبيه له عليها؛ لتقع المعجزة بها بعد التثبيت فيها والتأمل لها".
ونحو هذا قوله عز وجل: {قال كم لبثتم في الأرض عدد سنين} (المؤمنون:112) الاستفهام عن عدد سنوات المكث في الأرض مستعمل في التنبيه؛ ليظهر لهم خطؤهم؛ إذ كانوا يزعمون أنهم إذا دفنوا في الأرض لا يخرجون منها!
ومن ذلك قوله تعالى: {أفرأيتم ما كنتم تعبدون} (الشعراء:75) فعل الرؤية هنا قلبي، والاستفهام هنا مستعمل في التنبيه على ما يجب أن يُعلم على إرادة التعجيب مما يُعلم من شأنه. والكلام مستعمل في التنبيه لشيء يريد المتكلم الحديث عنه؛ ليعيه السامع حق الوعي.
ويدخل في هذا قوله عز وجل: {أمن يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء ويجعلكم خلفاء الأرض} (النمل:62) فالمراد بالاستفهام التنبيه على أنهم عند اضطرارهم في نوازل الدهر وخطوب الزمان، كانوا يلجؤون إلى الله تعالى دون الشركاء والأصنام، ويدل على التنبيه ختام الآية وهو قوله تعالى: {أإله مع الله قليلا ما تذكرون} (النمل:62).
وقل مثل ذلك في قوله تعالى: {وهل أتاك حديث موسى} (طه:9)، وقوله سبحانه مخاطباً نبيه موسى عليه السلام: {وما أعجلك عن قومك يا موسى} (طه:83)، وقوله عز وجل: {ألم تر أن الله يزجي سحاباً} (النور:43)، وقوله جل من قائل: {هل أتاك حديث الغاشية} (الغاشية:1) فكل هذه الاستفهامات وما شاكلها، المراد بها التنبيه على أمر ذي شأن ينبغي الاهتمام به، وحَدَثٍ ذي بال يُقصد الالتفات إليه.
الأسلوب الرابع: ذكر قدرة الله وبديع صنعه، ومثال هذا النوع من التنبيه كثير أيضاً في كتاب الله، من ذلك قول الباري تعالى: {والله خلق كل دابة من ماء فمنهم من يمشي على بطنه ومنهم من يمشي على رجلين ومنهم من يمشي على أربع} (النور:45) فالمراد من ذكر هذه الأنواع من المشي التنبيه على بديع صنع الخالق سبحانه، وكمال قدرته. ونحو هذا قوله سبحانه: {وهو الذي مرج البحرين هذا عذب فرات وهذا ملح أجاج وجعل بينهما برزخا وحجرا محجورا} (الفرقان:53) قال ابن عطية: "المقصد بالآية التنبيه على قدرة الله وإتقان خلقه للأشياء في أن بث في الأرض مياهاً عذبة كثيرة من الأنهار والعيون والآبار، وجعلها خلال الأجاج، وجعل الأجاج خلالها، فترى البحر قد اكتنفته المياه العذبة في ضفتيه، ويلقى الماء البحر في الجزائر ونحوها قد اكتنفه الماء الأجاج".
ومن هذا الباب أيضاً قول الحق تعالى: {تبارك الذي جعل في السماء بروجا وجعل فيها سراجا وقمرا منيرا} (الفرقان:61) قال ابن عطية: "غرض الآية التنبيه على أشياء مدركات، تقوم بها الحجة على كل منكر لله، أو جاهل". ومنه أيضاً قوله سبحانه: {أمدكم بأنعام وبنين} (الشعراء:133) فالمراد التنبيه على نعم الله تعالى، التي أنعم بها على عباده، فمنهم شاكر حامد، ومنهم ناكر جاحد.
ومنه كذلك قوله تبارك وتعالى: {فانظر إلى آثار رحمت الله كيف يحي الأرض بعد موتها} (الروم:50)، فالمراد بالأمر بالنظر التنبيه على عظم قدرته تعالى، وسعة رحمته مع ما فيه من التمهيد لما يعقبه من أمر البعث.
الأسلوب الخامس: استخدام الأداة (ألا) ورد التنبيه بهذه الأداة في القرآن في مواضع معدودة، وليست بالكثيرة، نذكر منها قوله تعالى: {ألا إن لله ما في السماوات والأرض ألا إن وعد الله حق} (يونس:55)، قال القرطبي: "(ألا) كلمة تنبيه للسامع، تزاد في أول الكلام، أي: انتبهوا لما أقول لكم". ومنه قوله تعالى: {ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون} (يونس:62)، وقوله عز وجل: {ألا إن لله ما في السماوات والأرض قد يعلم ما أنتم عليه} (النور:64) والافتتاح بحرف التنبيه ينبه المخاطبين ليعُوا ما يرد بعده.
الأسلوب السادس: استخدام ألفاظ ذات دلالة محددة بغرض التنبيه على معنى يراد تقريره، مثال ذلك قوله سبحانه مخاطباً بني إسرائيل بعد أن ضلوا ضلالاً بعيداً: {فتوبوا إلى بارئكم} (البقرة:54) ففي الإتيان بلفظ {بارئكم} تنبيه على عظم جرمهم، أي: فتوبوا إلى الذي خلقكم، وقد عبدتم معه غيره. قاله ابن كثير.
ومنه قوله تعالى: {سورة أنزلناها وفرضناها وأنزلنا فيها آيات بينات} (النور:1)، ففي قوله: {سورة} دون ذكر هذا اللفظ في غيرها من السور تنبيه على الاعتناء بها، ولا ينفي ما عداها.
ويدخل في هذا الأسلوب قوله سبحانه: {لا يبغون عنها حولا} (الكهف:108) فالإتيان بلفظ {حولا} فيه تنبيه على رغبتهم فيها، وحبهم لها، مع أنه قد يتوهم فيمن هو مقيم في المكان دائماً، أنه يسأمه أو يمله، فأخبر أنهم مع هذا الدوام والخلود السرمدي، لا يختارون عن مقامهم ذلك متحولاً، ولا انتقالاً، ولا رحلة، ولا بدلاً.
الأسلوب السابع: أسلوب قياس الأولى، المراد بهذا الأسلوب ذكر أمر ما لينبه على أمر آخر بطريق الأولى والأحرى، وهذا الأسلوب له أمثلة عديدة في القرآن، نذكر منها قوله عز وجل: {ولنجزينهم أحسن الذي كانوا يعملون} (العنكبوت:7) ففي قوله: {أحسن} -وهو صيغة تفضيل- تنبيه على أنه سبحانه سيجزي عباده كل ما عملوه من عمل حسن؛ لأنه من باب الأولى إذا جازاهم بالأحسن، أن يجازيهم بما دونه، فهو من التنبيه على الأدنى بالأعلى.
ومن هذا الباب قوله عز من قائل مخاطباً نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم: {يا أيها النبي اتق الله ولا تطع الكافرين والمنافقين إن الله كان عليما حكيما * واتبع ما يوحى إليك من ربك إن الله كان بما تعملون خبيرا * وتوكل على الله وكفى بالله وكيلا} (الأحزاب:1-3)، ففي أمر النبي عليه الصلاة والسلام -وهو سيد المتقين وإمام العابدين- بتقوى الله تنبيه بالأعلى على الأدنى؛ فإنه تعالى إذا كان يأمر عبده ورسوله بهذا، فلأن يأتمر من دونه بذلك بطريق الأولى والأحرى.
ومنه أيضاً قول الله تعالى: {ليكفر الله عنهم أسوأ الذي عملوا ويجزيهم أجرهم بأحسن الذي كانوا يعملون} (الزمر:35)، ففي قوله: {أسوأ} -وهو من صيغ التفضيل- تنبيه بالأعلى على الأدنى؛ فإذا كان سبحانه يكفر عن عباده أسوأ الذي عملوا، فإنه من باب الأولى والأحرى أن يكفر عنهم السيء من أعمالهم.
ومنه كذلك قوله سبحانه: {فلينظر الإنسان مم خلق} (الطارق:5)، قال ابن كثير: "هذا تنبيه للإنسان على ضعف أصله الذي خُلق منه، وإرشاد له إلى الاعتراف بالمعاد؛ لأن من قدر على البداءة، فهو قادر على الإعادة بطريق الأولى، كما قال: {وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه} (الروم:27).
الأسلوب الثامن: استخدام أداة النداء (يا) بغرض التنبيه، ومن الأمثلة في القرآن الكريم قوله عز وجل: {يا حسرة على العباد} (يس:30) فحرف النداء هنا {يا} القصد منه التنبيه على خطر ما بعده؛ ليصغي إليه السامع.
ومن ذلك أيضاً قوله عز وجل: {يا ليت قومي يعلمون} (يس:26)، وقوله سبحانه: {يا حسرتا على ما فرطت في جنب الله} (الزمر:56)، فحرف النداء {يا} في هاتين الآيتين وأمثالهما الغرض منه تنبيه المخاطب على أمر يأتي بعدهما.
هذه جملة من أساليب التنبيه التي اهتدينا إليها في القرآن، وهي ليست كل ما في القرآن من أساليب التنبيه، فثمة بالتأكيد أساليب أُخر لم نهتد إليها، والله الهادي إلى سواء السبيل.
- الكاتب:
إسلام ويب - التصنيف:
دراسات قرآنية