كثيراً ما يمر علينا عند القراءة في كتب تفسير القرآن الكريم، قول المفسرين: "وهذا من باب عطف العام على الخاص"، وهو تعبير يقابله قولهم: "وهو من باب عطف الخاص على العام"، وقد أفردنا موضوعاً عن هذا المصطلح الأخير، ونخصص هذا الجزء للحديث عن مصطلح "عطف العام على الخاص"، بادئين بالتعريف بالمصطلح:
تعريف هذا التركيب
فـ (العطف) لغة: الرجوع إلى الشيء بعد الانصراف عنه، وعطفت الشيء: إذا ثنيته، واصطلاحاً: هو التابع المتوسط بينه وبين متبوعه أحد حروف العطف. و(العطف) قد يكون عطف مفرد على مفرد، أو جملة على جملة.
واللفظ (العام) هو اللفظ المستغرق لجميع ما يصلح له بحسب وضع واحد، كقولنا: الرجال، فإنه مستغرق لجميع ما يصلح له. وإن شئت قل: اللفظ العام هو: اللفظ الذي يندرج تحته عدد من الأفراد.
أما اللفظ (الخاص) فهو ما دل على مفرد بعينه، وهو مقابل للفظ (العام)، كقولك: رجل.
فتحصل من التعريفات المتقدمة أن المراد من مصطلح (عطف العام على الخاص) هو عطف اللفظ العام، الذي تندرج تحته عدة أفراد، على لفظ خاص دالٍ على فرد واحد فقط، كقولنا: كرمت المدرسة الطالب أحمد والطلاب المتفوقين. فـ (الطلاب) لفظ عام يدخل فيه أحمد، و(أحمد) لفظ خاص، عُطف عليه لفظ عام، وهو (الطلاب).
وأسلوب عطف اللفظ العام على الخاص أسلوب معهود في لسان العرب، وقد خطَّأ السيوطي من أنكر وجوده.
فائدة هذا الأسلوب
أسلوب عطف العام على الخاص ليس حشواً في الكلام، ولا تكراراً له من غير فائدة، بل له فائدة واضحة، وهي كما قال السيوطي: "التعميم، وأفرد الأول بالذكر؛ اهتماماً بشأنه"، والمراد بـ (الأول) اللفظ الخاص المندرج في اللفظ العام.
أمثلة قرآنية على هذا الأسلوب
أسلوب عطف اللفظ العام على اللفظ الخاص جاء في القرآن الكريم في مواضع عدة، نذكر فيما يلي أمثلة عليه، تهدي إلى بيانه والغرض منه:
* قوله سبحانه: {إنما أمرت أن أعبد رب هذه البلدة الذي حرمها وله كل شيء} (النمل:91)، فقوله: {وله كل شيء} لفظ عام، عطف على قوله: {رب هذه البلدة } لفظ خاص، فالكلام من باب عطف اللفظ العام على الخاص، أي: هو رب هذه البلدة، ورب كل شيء ومليكه. و{البلدة} في الآية يعني: مكة، والغرض من إفرادها؛ أنه سبحانه عظم شأنها، فجعلها حرماً آمناً، لا يسفك فيها دم، ولا يظلم فيها أحد.
* قوله عز وجل: {والأنعام خلقها لكم فيها دفء ومنافع} (النحل:5)، فقوله {دفء} لفظ خاص، وقوله {ومنافع} لفظ عام، فعطف اللفظ العام على الخاص. وفائدة إفراد (الدفء) بالذكر -كما ذكر ابن عاشور- أنه أمر قلما تستحضره الخواطر.
* قوله تعالى: {لتعلموا عدد السنين والحساب} (يونس:5)، لفظ (الحساب) يشمل حساب الأيام والشهور والفصول والسنين، فعَطْفُه على {عدد السنين} من باب عطف العام على الخاص؛ للتعميم بعد ذكر الخاص؛ اهتماماً به.
* قوله سبحانه: {وجعلنا في قلوب الذين اتبعوه رأفة ورحمة} (الحديد:27)، عَطْف (الرحمة) على (الرأفة) من باب عطف العام على الخاص؛ لاستيعاب أنواعه بعد أن اهتم ببعضها.
* قوله عز وجل: {المر تلك آيات الكتاب والذي أنزل إليك من ربك الحق} (الرعد:1)، يعني بـ {الكتاب} السورة، وهو لفظ خاص، و{تلك} إشارة إلى آياتها، أي: تلك الآيات آيات السورة الكاملة، {والذي أنزل إليك} هو القرآن كله، وهو لفظ عام، فعطفه على اللفظ الخاص. ذكره البيضاوي. وفائدة هذا العطف التنبيه على ما تضمنته هذه السورة من حقائق عقدية وسنن كونية.
* قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا الذين اتخذوا دينكم هزوا ولعبا من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم والكفار أولياء} (المائدة:57)، عطف (الكفار) على أهل الكتاب من باب عطف العام على الخاص، فكلمة (كفار) تشمل كل كافر بمحمد صلى الله عليه وسلم، وخص أهل الكتاب بالذكر؛ لأنه الموضوع من الأصل في عدم موالاة المؤمنين لليهود والنصارى، ثم عمم الحكم على الجميع ممن كفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم.
* قوله سبحانه: {قل إن صلاتي ونسكي} (الأنعام:162)، (النسك) هنا بمعنى العبادة، وهو لفظ عام يشمل كل عبادة، ولفظ (الصلاة) خاص، يدل على عبادة مخصوصة، فيكون الكلام من باب عطف العام على الخاص، وتكون كلمة (الصلاة) المقصودة، الصلاة: فرضها ونفلها، والتهجد بها، وخصت بالذكر؛ لأنها عمود الدين ولبه، ولا دين من غير صلاة.
* قوله عز وجل: {وإذ قالوا اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم} (الأنفال:32)، فقوله سبحانه: {فأمطر علينا حجارة} لفظ خاص، وقوله: {أو ائتنا بعذاب أليم} لفظ عام، فالكلام هنا من باب عطف العام على الخاص). ونكتة هذا الخاص: أن العرب الذين خوطبوا بالقرآن أولاً، ونزل بلغتهم، يشعرون بما لا يشعر غيرهم من الوعيد بشرب الماء الحميم، والحرمان من الماء البارد، وإنما كان لهم هذا الجزاء بسبب ما كانوا يعملون من أعمال الكفر المستمرة إلى الموت، كدعاء غير الله تعالى، والنذر لغيره، وذبح القرابين لغيره، وسائر الأعمال السيئة التي يزينها لهم الكفر، ويصد عنها الإيمان.
* قوله تعالى: {قل من يرزقكم من السماء والأرض أمن يملك السمع والأبصار ومن يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي ومن يدبر الأمر} (يونس:31)، فقوله سبحانه: {ومن يدبر الأمر} أي: يقدره ويقضيه، لفظ عام، عُطف على ما قبله من ألفاظ الخصوص، فالكلام من باب عطف العام على الخاص، لأن (تدبير الأمر) قد عمَّ ما تقدم وغيره. وفائدة ذكر تلك الألفاظ الخاصة؛ أن بها قِوام حياة الإنسان.
* قوله سبحانه: {ولقد آتيناك سبعا من المثاني والقرآن العظيم} (الحجر:87)، المراد بـ {المثاني} هنا سورة الفاتحة، {والقرآن العظيم} معطوف على {سبعا من المثاني}، وهو من عطف العام على الخاص؛ لأن الفاتحة بعض من القرآن. وفائدة هذا التخصيص بيان أهمية سورة الفاتحة؛ إذا حوت جميع مقاصد القرآن العظيم. وكذلك إن أريد بـ (السبع المثاني) السبع الطوال؛ لأنها بعض من القرآن.
* قوله عز وجل: {قل فمن يملك من الله شيئا إن أراد أن يهلك المسيح ابن مريم وأمه ومن في الأرض جميعا} (المائدة:17)، فقوله سبحانه: {ومن في الأرض جميعا} لفظ عام، عُطف على قوله: {المسيح ابن مريم وأمه} وهو لفظ خاص، فيكون الكلام من باب عطف العام على الخاص، ويكون المسيح وأمه قد ذُكرا مرتين: مرة بالنص عليهما، ومرة بالاندراج في العام؛ وذلك على سبيل التوكيد والمبالغة في تعلق نفاذ الإرادة الإلهية فيهما. أفاد هذا أبو حيان.
* قوله تعالى: {واتبع ما يوحى إليك من ربك} (الأحزاب:2)، هذا لفظ عام، عُطف على قوله سبحانه: {يا أيها النبي اتق الله ولا تطع الكافرين والمنافقين} (الأحزاب:1)، فالكلام من قبيل عطف العام على الخاص، أي: اتبع في كل ما تأتي وتذر من أمور الدين ما يوحى إليك من الآيات التي من جملتها هذه الآية الآمرة بتقوى الله تعالى، الناهية عن إطاعة الكفرة والمنافقين.
* قوله سبحانه: {نزل عليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه وأنزل التوراة والإنجيل * من قبل هدى للناس وأنزل الفرقان} (آل عمران:3-4)، فقوله: {وأنزل الفرقان} أي: أنزل سائر ما يُفرِّق بين الحق والباطل، فهو من باب عطف العام على الخاص، حيث ذكر أولاً الكتب الثلاثة، ثم عمَّ الكتب كلها؛ لإِفادة الشمول مع العناية بالخاص. قال الطبري في المراد بـ: {وأنزل الفرقان}: "وأنزل الفصل بين الحق والباطل فيما اختلفت فيه الأحزاب، وأهل الملل في أمر عيسى، وغيره". وبعد أن نقل قول بعضهم: "إن المراد بـ {الفرقان} هنا: القرآن"، قال: "والتأويل الذي ذكرناه أولى بالصحة، وأن يكون معنى {الفرقان} في هذا الموضع: فَصْل الله بين نبيه محمد صلى الله عليه وسلم والذين حاجوه في أمر عيسى، وفي غير ذلك من أموره، بالحجة البالغة القاطعة عذرهم وعذر نظرائهم من أهل الكفر بالله". قال: "وإنما قلنا هذا القول أولى بالصواب؛ لأن إخبار الله عن تنزيله القرآن قبل إخباره عن تنزيله التوراة والإنجيل في هذه الآية، قد مضى بقوله: {نزل عليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه}، ولا شك أن ذلك {الكتاب} هو القرآن لا غيره، فلا وجه لتكريره مرة أخرى؛ إذ لا فائدة في تكريره".
* قوله عز وجل: {رب اغفر لي ولوالدي ولمن دخل بيتي مؤمنا وللمؤمنين والمؤمنات} (نوح:28)، فقوله: {لي ولوالدي} لفظ خاص، وقوله: {وللمؤمنين والمؤمنات} لفظ عام، وخص الدعاء للنفس والوالدين بالذكر؛ لأن الإنسان يرجو الخير لنفسه أولاً، ثم لوالديه.
هذه جملة من الأمثلة التي تبين أسلوب عطف اللفظ العام على اللفظ الخاص في القرآن الكريم، والغرض منه. وثمة ورائها أمثلة أُخر، ليس من العسير الوقوف عليها في كتب التفسير.
- الكاتب:
إسلام ويب - التصنيف:
دراسات قرآنية