يذكر أهل البلاغة العربية أن من أساليب العرب في الكلام إقامة الكلمة مقام الكلمة. فهم يقولون: ما له معقول ولا مجلود، ويريدون أنه ليس له عقل يزن به الأمور، ولا جَلَد له يُعِيْنه على تحمل صعاب الحياة ومشاقها. ويقولون أيضاً: لقيت زيداً، وقِيْلَهُ كذا، أي: لقيته يقول كذا. والبلاغيون يسمون هذا الأسلوب من الكلام بـ (التعويض)، قال ابن فارس في كتابه "الصاحبي": "من سُنن العرب التعويض -وهو إقامة الكلمة مقام الكلمة-، فيقيمون الفعل الماضي مقام الراهن"، ويقومون المصدر مقام الفعل، وهكذا دواليك.
ولا جديد إذ نقول: إن القرآن الكريم نزل على وَفْق لغة العرب، وجرى مجرى سَنَنهم في الكلام، فكان من أسلوبه إقامة الكلمة مقام الكلمة، ومن تتبع هذا الأسلوب البلاغي في القرآن الكريم وجد أنه قد سلك طرقاً متنوعة في تقرير هذا الأسلوب، نذكرها فيما يلي مع التمثيل لكل طريق منها:
أولاً: إقامة الفاعل مقام المفعول، وذلك نحو قوله تعالى: {قال لا عاصم اليوم من أمر الله} (هود:43)، فـ {عاصم} بمعنى: معصوم، أي: لا معصوم مما قضاه الله. ونحو هذا قوله عز وجل: {خلق من ماء دافق} (الطارق:6)، فـ {دافق} بمعنى: مدفوق. ومثله قوله سبحانه: {فهو في عيشة راضية} (الحاقة:21)، فـ {راضية} بمعنى: مرضية.
ثانياً: إقامة المفعول مقام الفاعل، وهذا عكس سابقه، ومثاله قوله عز وجل: {إنه كان وعده مأتيا} (مريم:61)، فـ {مأتيا} مفعول وهو بمعنى فاعل، أي: آتياً. ومن ذلك قوله تعالى: {حجاباً مستورا} (الإسراء:45)، أي: ساتراً.
ثالثاً: إقامة فعول مقام المصدر، من ذلك قوله تعالى: {لا نريد منكم جزاء ولا شكورا} (الإنسان:9)، فـ (شكور) بمعنى: شكر؛ فإنه ليس المراد الجمع هنا، بل المراد لا نريد منكم (شكراً) أصلاً، وهذا أبلغ في قصد الإخلاص. ومن هذا القبيل قوله عز وجل: {لمن أراد أن يذكر أو أراد شكورا} (الفرقان:61).
رابعاً: إقامة المصدر مقام المفعول، من ذلك قوله تعالى: {ولا يحيطون بشيء من علمه} (البقرة:255)، أي: من معلومه. ومنه قوله سبحانه: {ذلك مبلغهم من العلم} (النجم:30)، أي: من المعلوم. ومنه قوله عز وجل: {صنع الله الذي أتقن كل شيء} (النمل:88)، أي: مصنوعه. وهذا كثير في القرآن لمن تتبعه.
خامساً: إقامة المصدر مقام الفاعل، من ذلك قوله تعالى: {لا يحب الله الجهر بالسوء من القول} (النساء:148)، قال الزجاج: المصدر ههنا {الجهر} أقيم مقام الفاعل، والتقدير: لا يحب الله المجاهر بالسوء إلا من ظلم. ومنه قوله سبحان: {هدى وبشرى للمؤمنين} (النمل:2)، والتقدير: هادياً وبشيراً، قال الآلوسي: أقام المصدر مقام الفاعل فيه للمبالغة، كأن الآيات نفس الهدى والبشارة.
سادساً: إقامة المصدر مقام الفعل، ومثاله قوله عز من قائل: {فطفق مسحا بالسوق والأعناق} (ص:33)، فقوله سبحانه: {مسحا} مصدر أقيم مقام الفعل، أي: طفق يمسح مسحاً. ونحو ذلك قوله تعالى: {وعلى أبصارهم غشاوة} (البقرة:7)، فـ {غشاوة} مصدر قام مقام فعله، فكأنه قيل: وغشى الله على أبصارهم، ويكون ذلك بقصد الدعاء عليهم. ومن هذا الباب قوله سبحانه: {فكلوه هنيئا مريئا} (النساء:4)، فـ {هنيئا} صفة، استعملت استعمال المصدر القائم مقام الفعل، كأنه قيل: هنأكم الأكل والشرب. أو هناءكم ما كنتم تعملون.
سابعاً: إقامة المصدر مقام الأمر، المثال القرآني الأشهر لهذا النوع قوله سبحانه: {فضرب الرقاب} (محمد:4)، أي: إذا لقيتم الذين كفروا في ساح القتال، فاضربوا رقابهم، ولا تأخذكم بهم رأفة في دين الله. ومن هذا القبيل، قوله عز وجل: {فسبحان الله حين تمسون وحين تصبحون} (الروم:17)، والسُّبْحة: الصلاة. وتأويل الآية: سبحوا لله جل ثناؤه.
ثامناً: إقامة الفاعل مقام المصدر، من ذلك قوله سبحانه: {ليس لوقعتها كاذبة} (الواقعة:2)، أي: تكذيب. ونحو ذلك قوله تعالى: {يعلم خائنة الأعين} (غافر:19)، أي: خيانة. ونحوه قوله عز وجل: {لا تسمع فيها لاغية} (الغاشية:11)، أي: لغو.
تاسعاً: إقامة المفعول مقام المصدر، من ذلك قوله عز من قائل: {بأيكم المفتون} (القلم:6)، أي: بأيكم الفتنة. ومن هذا القبيل قوله سبحانه: {الذي أحلنا دار المقامة} (فاطر:35)، أي: دار الإقامة.
عاشراً: إقامة الفعل مقام المصدر، من ذلك قوله تعالى: {يضل به كثيرا ويهدي به كثيرا} (البقرة:12)، والتقدير: ضلالاً وهداية، قال الآلوسي: وضع الفعلان: {يضل}، {ويهدي} موضع المصدر؛ للإشعار بالاستمرار التجددي، والمضارع يُستعمل له كثيراً.
حادي عشر: إقامة فعيل مقام مُفْعَل، من ذلك قوله تعالى: {فيها يفرق كل أمر حكيم} (الدخان:4)، أي: محكم. قاله البغوي.
ثاني عشر: إقامة المصدر مقام مَفْعِل، من ذلك قوله سبحانه: {وللكافرين عذاب أليم} (البقرة:104)، أي: مؤلِم.
ثالث عشر: إقامة مفعل مقام مفعول، من ذلك قوله عز من قائل: {وقصر مشيد} (الحج:45)، فـ {مشيد} بمعنى مشيود، كمبيع بمعنى مبيوع.
رابع عشر: إقامة الفعل مقام الحال، وعلى هذا قوله عز وجل: {يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك تبتغي مرضاة أزواجك} (التحريم:1)، فـ {تبتغي} بمعنى مبتغياً.
خامس عشر: إقامة المصدر مقام الحال، ومثاله قوله سبحانه: {ثم أرسلنا رسلنا تترى} (المؤمنون:44)، قال الواحدي: {تترى} مصدر أقيم مقام الحال؛ لأن المعنى: متواترة.
سادس عشر: إقامة فعيل بمعنى مفعول، من ذلك قول الله تعالى: {فجعلناها حصيدا} (يونس:24)، فـ (حصيد) بمعنى محصود، أي: مقطوعة لا شيء فيها. ومن هذا القبيل قوله سبحانه: {وهدوا إلى صراط الحميد} (الحج:24)، أي: المحمود كثيراً. ومنه قول الباري تعالى: {وأعتدنا لمن كذب بالساعة سعيرا} (الفرقان:11)، أي: مسعور. وهذا كثير في القرآن.
سابع عشر: إقامة فعيلة بمعنى مفعول، من ذلك قول الله عز وجل: {فريضة من الله} (النساء:11)، أي: مفروضة من الله عليكم. ونحو ذلك قوله تعالى: {فآتوهن أجورهن فريضة} (النساء:24).
ثامن عشر: إقامة فعول بمعنى مفعول، من ذلك قوله سبحانه: {وآتينا داود زبورا} (النساء:163)، فـ (زبور) صيغة فعول، وهو بمعنى مفعول، أي: آتيناه الكتاب مزبوراً، بمعنى: مكتوباً. وعلى هذا النحو قوله الله تعالى: {فمنها ركوبهم} (يس:72)، أي: مركوبهم. ومنه قول الباري تعالى: {وسيدا وحصورا} (آل عمران:39)، أي: محصوراً.
تاسع عشر: إقامة فعال بمعنى مفعول، من هذا القبيل قوله تعالى: {فجعلنهم جذاذا} (الأنبياء:58)، فـ (جذاذ) على وزن (فعال) بمعنى مفعول (مجذوذ)، من الجذ الذي هو القطع. ومنه قول الله تعالى: {كتاب فصلت آياته} (فصلت:3)، فـ {كتاب} هو (فعال) بمعنى مفعول، أي: مكتوب. قال الشنقيطي: وإتيان (الفعال) بمعنى (المفعول) جاءت منه أمثلة في اللغة العربية، كـ (الإله) بمعنى المألوه: أي: المعبود، و(اللباس) بمعنى الملبوس.
العشرون: إقامة فعيل بمعنى مفاعل، قال الطبري: وهو كثير، ومنه نديم وجليس، بمعنى منادم ومجالس. ومثاله من القرآن قوله عز من قائل: {وكان الكافر على ربه ظهيرا} (الفرقان:55)، فـ (ظهير) صيغة فعيل، وهي بمعنى مفاعل، أي: مظاهراً. و(المظاهرة) المعاونة، أي: يعاون الكافر الشيطان على ربه سبحانه بالعداوة والشرك.
الحادي والعشرون: إقامة فعل بمعنى مفعول، من ذلك قوله تعالى: {الله الصمد} (الإخلاص:2)، أي: المصمود، كالقبض بمعنى المقبوض. و(الصمد): هو الذي يُصمد إليه في الحاجات، أي: يُقصد لكونه قادراً على قضائها. ومن هذا القبيل، قول الله تعالى: {قل أعوذ برب الفلق} (الفلق:1)، و{الفلق} الصبح، وهو بمعنى المفلوق؛ لأن الليل ينفلق عنه الصبح.
الثاني والعشرون: إقامة الماضي مقام الحاضر، ويمثل له بقوله سبحانه: {قال سننظر أصدقت أم كنت من الكاذبين} (النمل:27)، المعنى: أم أنت من الكاذبين. ونحو ذلك قوله جل وعلا: {وما جعلنا القبلة التي كنت عليها} (البقرة:143)، أي: أنت عليها.
وليس يخفى أن إقامة الكلمات بعضها مقام بعض، إنما هو لتحصيل معنى مراد، أو تأكيد مرمى مقصود، أو حث على فعل مطلوب. والمفسرون يعللون ذلك بنحو قولهم: "لأن دلالة الفعل على مصدره أقوى من دلالته على الزمان، وعلى الهيئة، وعلى المفعول، وعلى الفاعل". وأحياناً يكون الغرض من إقامة كلمة مكان أخرى هو الإغراء على القيام بالفعل. وقد يعللون هذا المسلك لغير ما ذكرنا من المعاني والمرامي، التي تُعرف بالتتبع والتأمل.
- الكاتب:
إسلام ويب - التصنيف:
دراسات قرآنية