لم يكن عبثاً أن تأتي الجملة في لغة العرب على أشكال مختلفة، وضروب متنوعة، فهناك الجملة الاسمية، والجملة الخبرية، والجملة الطلبية، والجملة الاستئنافية...ولكل جملة من هذه الجمل هدف وغاية، ما يعني توسعاً في الأساليب، ودقة في الأداء والتعبير.
ومن أنواع الجُمل في اللغة العربية (الجملة الاعتراضية)، وهي التي تتوسط بين أجزاء الجملة؛ لتقرير معنى يتعلق بها، أو بأحد أجزائها، وسميت كذلك؛ لأن المتكلم لا يكمل جملته حتى يأتي بها، وتكون معترضة نطقه. فأنت إذا خاطبت ولدك فقلت: ادرس بجد -وفقك الله- تنجح، فقولك: وفقك الله، جملة اعترضَتْ ما طلبت من ولدك القيام به من دراسة وجِدٍّ؛ كي ينال النجاح. والمتكلم عادة يأتي بهذه الجملة لغرض سوف يتبين لاحقاً.
قال أهل العربية: "إن من سنن العرب أن يعترض بين الكلام وتمامه، كلام لا يكون إلا مفيداً"، وهـذا الكلام المعترض هو ما اصطلح على تسميته بـ (الجملة المعترضة)، وفائدة هذه الجملة، أنها يُؤتى بها تأكيداً وتسديداً للكلام الذي اعترضت بين أجزائه.
ثم إنك إذا أجلت النظر في كتاب الله العزيز، وجدت أن هذا النوع من الجمل ذو حضور واضح في أثناء جمله وآياته. وقد نبه على هذا الأسلوب كثير من المفسرين، وخاصة من كان له اهتمام في جانب اللغة، كالزمخشري في "الكشاف"، وأبي حيان في "البحر المحيط"، والآلوسي في "روح المعاني"، والشوكاني في "فتح القدير"، وابن عاشور في "التحرير والتنوير".
وإذا كان المفسرون الذين عولوا على هذا الأسلوب، قد اعتمدوا عليه في تفسير كثير من الآيات، فإن ابن عاشور قد تحدث عنه في مقدمة تفسيره، وبيَّن فائدته، فقال: "تكثر في القرآن الجمل المعترضة لأسباب اقتضت نزولها أو بدون ذلك؛ فإن كل جملة تشتمل على حكمة، وإرشاد، أو تقويم معوج"، وأتى ببعض الأمثلة على ذلك.
كما أن الزركشي في "البرهان" تحدث عن الجملة المعترضة، تعريفاً، وتمثيلاً، واعتباراً، وغرضاً، ونقل عن الشيخ عز الدين بن عبد السلام، أن "الجملة المعترضة تارة تكون مؤكِّدة، وتارة تكون مشدِّدة؛ لأنها إما ألا تدل على معنى زائد على ما دل عليه الكلام، بل دلت عليه فقط، فهي مؤكِّدة، وإما أن تدل عليه وعلى معنى زائد فهي مشدِّدة".
وقد ذكر الزمخشري أمراً لا ينبغي أن يُغفل عنه في هذا السياق، حاصله أن "الجمل الاعتراضية لا بد لها من اتصال بما وقعت معترضة فيه"، وهذا يعني: أن الجملة المعترضة لا تكون مقطوعة الصلة عن السياق الذي وردت فيه، بل لا بد لها أن تكون على صلة به من جهة اللفظ أو من جهة المعنى. والأمثلة تزيد الأمر وضوحاً.
فقوله تعالى: {والذين آمنوا وعملوا الصالحات وآمنوا بما نزل على محمد وهو الحق من ربهم كفر عنهم سيئاتهم وأصلح بالهم} (محمد:2)، تضمن جملة معترضة، هي قوله سبحانه: {وهو الحق من ربهم}؛ والغرض من هذه الجملة تأكيد أن القرآن من عند الله سبحانه. قال ابن كثير : "قوله: {وهو الحق من ربهم} جملة معترضة حسنة". وقال الآلوسي: "وهو جملة معترضة بين المبتدأ والخبر، مفيدة لحصر الحقية فيه". وقال ابن عاشور: "وزيد في جانب المؤمنين التنويه بشأن القرآن بالجملة المعترضة قوله: {وهو الحق من ربهم}.
وقوله تعالى: {إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها وجعلوا أعزة أهلها أذلة وكذلك يفعلون * وإني مرسلة إليهم بهدية فناظرة بم يرجع المرسلون} (النمل:34-35)، تضمن جملة معترضة، هي قوله سبحانه: {وكذلك يفعلون}؛ وقد جيء بها - على ما ذكره صاحب الكشاف - لتقرير ما يفعله الملوك عادة من إفساد البلاد، وإذلال العباد.
وقوله سبحانه: {وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى تلك أمانيهم قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين} (البقرة:111)، تضمن جملة معترضة، هي قوله تعالى: {تلك أمانيهم}، الغرض منها تبين أن ما يدعونه إنما هو مجرد أمانٍ، لا يصدقها الواقع، ولا يقوم عليها برهان.
وإذ تبين المراد من الجملة المعترضة، تعريفاً وموقفاً وتمثيلاً، ننتقل بعدُ لبيان أغراض هذه الجملة؛ إذ كما ألمحنا بداية، لا بد أن تكون الجملة المعترضة قد سيقت لغرض ما، ولا يمكن أن تكون قد سيقت عبثاً. ونحن نبين تالياً أهم الأغراض التي تُقصد من وراء الإتيان بالجملة المعترضة، معتمدين بشكل أساس على ما ذكره الزركشي بهذا الخصوص، فنقول:
يُؤتى بالجملة الاعتراضية بقصد تقرير الكلام، ومثال ذلك قوله سبحانه: {قالوا تالله لقد علمتم ما جئنا لنفسد في الأرض وما كنا سارقين} (يوسف:37)، فجملة: {لقد علمتم}، اعتراضية؛ القصد منها إثبات البراءة من تهمة السرقة؛ إذ إن إخوة يوسف بعد أن أصبحوا في موضع التهمة والدفاع عن أنفسهم، كان من المناسب الإتيان بهذه الجملة، لتقرير براءتهم، والدفاع عن أنفسهم، فكأنهم قالوا: أنتم تعلمون أن القصد من مجيئنا ليس السرقة، وإنما التزود بالطعام، وبالتالي فلا معنى لاتهامنا بالسرقة.
ونحو هذا قوله سبحانه: {وأتوا به متشابها} (البقرة:25) قال الزمخشري: "فإن قلت: كيف موقع قوله: {وأتوا به متشابها} من نظم الكلام؟ قلت: هو كقولك: فلان -أحسن بفلان- ونعم ما فعل"، فالجملة المعترضة في الآية غرضها تقرير حسن حال المؤمنين في الجنة، وأنهم ينعمون بأطيب الرزق وأرغده.
ويُؤتى بالجملة الاعتراضية بقصد التنـزيه، كقوله تعالى: {ويجعلون لله البنات سبحانه ولهم ما يشتهون} (النحل:57)، فجملة {سبحانه} اعتراضيه؛ الغرض منها تنزيه الله سبحانه وتقديسه عن مضمون قولهم ذلك؛ وفيها أيضاً معنى الشناعة على من جعل لله ولداً.
ويُؤتى بها بقصد التأكيد، ومنه قوله تعالى: {لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين} (الفتح:27)، فجملة {إن شاء الله} جيء بها -كما قال ابن كثير- لتحقيق الخبر وتوكيده، وليس هذا من الاستثناء في شيء.
ونحو هذا قوله تعالى: {وإنه لقسم لو تعلمون عظيم} (الواقعة:76)، فجملة {لو تعلمون} معترضة بين الصفة (القَسَم) والموصوف (عظيم)؛ والغرض منها تعظيم شأن ما أقسم به من مواقع النجوم، وتأكيد إجلاله بالنفوس. قال الآلوسي: وهو تأكيد لذلك التعظيم.
ويُؤتى بها بقصد التوبيخ والرد على الخصم، كقوله سبحانه: {وإذا بدلنا آية مكان آية والله أعلم بما ينزل قالوا إنما أنت مفتر بل أكثرهم لا يعلمون} (النحل:101)، فجملة {والله أعلم بما ينزل}، جملة معترضة بين الشرط وجوابه؛ للمسارعة إلى توبيخ المشركين، وتجهيلهم. قال الآلوسي: "والجملة إما معترضة لتوبيخ الكفرة والتنبيه على فساد رأيهم... وإما حالية". والمقصود منها تعليم المسلمين الرد على المشركين؛ لأنهم لو علموا أن الله هو المنزل للقرآن لارتفع البهتان.
ونحو هذا قوله تعالى: {فلولا إذا بلغت الحلقوم * وأنتم حينئذ تنظرون * ونحن أقرب إليه منكم ولكن لا تبصرون} (الواقعة:83-85)، فقد ذكر المفسرون أن قوله سبحانه: {ونحن أقرب إليه منكم} جملة معترضة، أفادت أن ثمة حضوراً أقرب من حضورهم عند المحتضر، وأكدت ما سيق له الكلام من توبيخهم على صدور ما يدل على سوء اعتقادهم بربهم.
ويُؤتى بالجملة المعترضة بقصد رفع الإبهام، من ذلك قوله سبحانه: {إذا جاءك المنافقون قالوا نشهد إنك لرسول الله والله يعلم إنك لرسوله والله يشهد إن المنافقين لكاذبون} (المنافقون:1)، فقد ذكر بعض المفسرين أن قوله سبحانه: {والله يعلم إنك لرسوله} جملة معترضة، جيء بها -كما قال ابن عاشور- لدفع إيهام من يسمع جملة {والله يشهد إن المنافقين لكاذبون} أنه تكذيب لجملة {إنك لرسول الله}، فإن المسلمين كانوا يومئذ محفوفين بعدد من المنافقين مبثوثين بينهم، شغلهم الشاغل فتنة المسلمين، فكان المقام مقتضياً دفع الإيهام.
ويُؤتى بها بقصد التخصيص، مثاله قوله سبحانه: {ووصينا الإنسان بوالديه حملته أمه وهنا على وهن وفصاله في عامين أن اشكر لي ولوالديك إلي المصير} (لقمان:14)، فجملة {حملته أمه وهنا على وهن} اعتراض بين قوله: {ووصينا الإنسان بوالديه}، وقوله: {أن اشكر لي ولوالديك}، وفائدة هذا الاعتراض: توجيه نظر الأبناء إلى الاهتمام بالأم أكثر من الاهتمام بالأب؛ لضعفها، فذَكَرَ ما تكابده الأم، وتعانيه من المشاق والمتاعب، في حمله وفصاله، هذه المدة المتطاولة؛ إيجاباً للتوصية بالوالدة خصوصاً، وتذكيراً بحقها العظيم مفرداً.
ويُؤتى بها بقصد التعظيم، كقوله تعالى: {ويستفتونك في النساء قل الله يفتيكم فيهن وما يتلى عليكم في الكتاب في يتامى النساء} (النساء:127)، فجملة {وما يتلى عليكم في الكتاب} معترضة؛ الغرض منها تعظيم حال هذه الآية التي تتلى عليهم، وأن العدل والإنصاف في حقوق اليتامى من عظائم الأمور عند الله تعالى التي يجب مراعاتها والمحافظة عليها، والمخل بها ظالم متهاون بما عظمه الله. ونحو هذه الآية قوله سبحانه: {وإنه في أم الكتاب لدينا لعلي حكيم} (الزخرف:4)، فجملة {في أم الكتاب} معترضة، الغرض منها تعظيم القرآن، وبيان أنه نفسه ما جاء في اللوح المحفوظ، قال أبو حيان: "وهذا فيه تشريف للقرآن، وترفيع بكونه".
ويُؤتى بها بقصد التنبيه، نحو قوله تعالى: {والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم ومن يغفر الذنوب إلا الله ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون} (آل عمران:135)، فجملة {ومن يغفر الذنوب إلا الله} معترضة، القصد منها تنبيه القارئ على أن مغفرة الذنوب بيد الله وحده. قال أبو حيان: "هذه الجملة الاعتراضية فيها ترفيق للنفس، وداعية إلى رجاء الله وسعة عفوه، واختصاصه بغفران الذنب".
ويُؤتى بها بقصد التحدي والتعجيز، وذلك نحو قوله تعالى: {وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله وادعوا شهداءكم من دون الله إن كنتم صادقين * فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا فاتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة أعدت للكافرين} (البقرة:23-24)، فجملة {ولن تفعلوا} معترضة بين الشرط وجوابه، فائدتها: بيان وتأكيد عجزهم عن الإتيان بمثل سورة من القرآن، وأن ذلك غير متاح لهم، ولو تظافرت هممهم عليه. قال أبو حيان: "لما قال: {فإن لم تفعلوا}، وكان معناه نفي في المستقبل مخرجاً ذلك مخرج الممكن، أخبر أن ذلك لا يقع، وهو إخبار صدق، فكان في ذلك تأكيد أنهم لا يعارضونه".
نخلص مما تقدم، أن الجملة الاعتراضية في القرآن -كشأنها في لغة العرب عموماً- تقوم بغرض بياني مهم؛ وبالتالي فهي ليست وسيلة لتحسين الكلام فحسب، بل إنها من مقتضيات النظم القرآني، ولو أسقطت من سياقها، لسقط معها جزء أصيل من المعنى، فهي بجانب كونها جزءاً من المعنى الأصلي، إلا أنها تحمل معاني فرعية أخرى، تلتحم جميعاً في تكوين معنى كلي.
- التصنيف:
دراسات قرآنية