الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:
فالظاهر أن السائل يريد بالعقل التفكير المنطقي الذي يخضع لمعلومات الإنسان وتجاربه وخبرته وقدرته على التحليل والاستنباط، ويريد بالقلب مشاعره وأحاسيسه وما تميل إليه نفسه، فإن كان هذا هو مراده، فلا يمكن الحكم لأحد هذين الاتجاهين بالصواب أو الخطأ مطلقا، فكلاهما يحتمل الخطأ والصواب.. فقد يحكم العقل بشيء ويكون الصواب خلافه، كحكمه للكثرة والقوة بالغلبة على القلة والضعف، وهذا الحكم ليس كلياً؛ فقد قال الله تعالى: كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ {البقرة:249}، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: هل تنصرون وترزقون إلا بضعفائكم. رواه البخاري.
وقد يميل القلب إلى شيء ويكون الصواب خلافه، كما قال تعالى: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ {البقرة:216}، وقال سبحانه: فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً {النساء:19}.
ولذلك فمن أراد الصواب فعليه أن يضبط قواه الفكرية والنفسية ويربطهما بمصدر معصوم، وليس هذا إلا الوحي المنزل من لدن حكيم عليم، وهو كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم. فبقدر ارتباط الإنسان بهذا المصدر علما وعملا تكون إصابته للحق، وتمييزه بينه وبين الباطل، قال تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا* فَأَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا {النساء:174-175}، وقال سبحانه: قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ* يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ {المائدة:15-16}.
ولهذا حكم الله تعالى لمن يتبع كتابه وسنة رسوله بأنهم هم أولوا الألباب، فقال عز وجل: فَبَشِّرْ عِبَادِ* الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ {الزمر:17-18}، قال السعدي: هذا جنس يشمل كل قول، فهم يستمعون جنس القول ليميزوا بين ما ينبغي إيثاره مما ينبغي اجتنابه، فلهذا من حزمهم وعقلهم أنهم يتبعون أحسنه، وأحسنه على الإطلاق كلام اللّه وكلام رسوله، كما قال في هذه السورة: اللَّهُ نزلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا.. وفي هذه الآية نكتة، وهي: أنه لما أخبر عن هؤلاء الممدوحين أنهم يستمعون القول فيتبعون أحسنه، كأنه قيل: هل من طريق إلى معرفة أحسنه حتى نتصف بصفات أولي الألباب، وحتى نعرف أن من آثره علمنا أنه من أولي الألباب؟ قيل: نعم، أحسنه ما نص اللّه عليه: اللَّهُ نزلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا.. الآية: الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ لأحسن الأخلاق والأعمال {وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الألْبَابِ} أي: العقول الزاكية، ومن لبهم وحزمهم، أنهم عرفوا الحسن من غيره، وآثروا ما ينبغي إيثاره على ما سواه، وهذا علامة العقل، بل لا علامة للعقل سوى ذلك، فإن الذي لا يميز بين الأقوال، حسنها وقبيحها، ليس من أهل العقول الصحيحة، أو الذي يميز، لكن غلبت شهوته عقله، فبقي عقله تابعا لشهوته فلم يؤثر الأحسن، كان ناقص العقل. اه من تفسير السعدي..
وقد سبقت عدة فتاوى تفيد السائل في هذا الموضوع، منها الفتاوى ذات الأرقام التالية: 13977، 23028، 16800، 61378.
والله أعلم.