الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

السؤال

جاء ذكر القلب في كثير من آيات القرآن الكريم مقصودا به العقل. نأمل إفادتنا أكثر في هذا الموضوع والعلاقة بين القصد بالعقل والتصريح بالقلب. وجزاكم الله خيرا

الإجابــة

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:

فقد ورد في كتاب الله تعالى أن من وظيفة القلب الفقه وتعقل الأمور، قال سبحانه ( أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها أو آذان يسمعون بها فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور) [الحج:46].

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في مجموع الفتاوى ج: 9 ص: 287
ثم من الناس من يقول: العقل هو علوم ضرورية، ومنهم من يقول: العقل هو العمل بموجب تلك العلوم. والصحيح أن اسم العقل يتناول هذا وهذا، وقد يراد بالعقل نفس الغريزة التي في الإنسان التي بها يعلم ويميز ويقصد المنافع دون المضار. كما قال أحمد بن حنبل والحارث المحاسبي وغيرهما: إن العقل غريزة، وهذه الغريزة ثابتة عند جمهور العقلاء كما أن في العين قوة بها يبصر، وفي اللسان قوة يذوق، وفي الجلد قوة بها يلمس عند جمهور العقلاء. ثم قال في ص: 303:
فصل: (وأما قوله أين مسكن العقل فيه؟ فالعقل قائم بنفس الإنسان التي تعقل، وأما من البدن فهو متعلق بقلبه، كما قال تعالى: (أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها) وقيل لابن عباس: بماذا نلت العلم؟ قال: بلسان سؤول وقلب عقول، لكن لفظ القلب قد يراد به المضغة الصنوبرية الشكل التي في الجانب الأيسر من البدن التي جوفها علقة سوادء، كما في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم "إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله" وقد يراد بالقلب باطن الإنسان مطلقا، فإن قلب الشيء باطنه، كقلب الحنطة واللوزة والجوزة ونحو ذلك، ومنه سمي القليب قليبا لأنه أخرج قلبه وهو باطنه.
وعلى هذا، فإذا أريد بالقلب هذا فالعقل متعلق بدماغه أيضا، ولهذا قيل: إن العقل في الدماغ، كما يقوله كثير من الأطباء ونقل ذلك عن الإمام أحمد، ويقول طائفة من أصحابه: إن أصل العقل في القلب فإذا كمل انتهى إلى الدماغ.
والتحقيق: إن الروح التي هي النفس لها تعلق بهذا وهذا وما يتصف من العقل به يتعلق بهذا وهذا، لكن مبدأ الفكر والنظر في الدماغ، ومبدأ الإرادة في القلب، والعقل يراد به العلم، فالعلم والعمل الاختياري أصله الإرادة وأصل الإرادة في القلب، والمريد لايكون مريدا إلا بعد تصور المراد فلا بد أن يكون القلب متصورا فيكون منه هذا وهذا، ويبتدىء ذلك من الدماغ، وآثاره صاعدة إلى الدماغ، فمنه المبتدأ وإليه الانتهاء. وكلا القولين له وجه صحيح. وهذا مقدار ما وسعته هذه الأوراق. والله أعلم.

والذي يظهر أن العقل له علاقة بالقلب، وله علاقة بالناصية التي هي مركز القرار.
يقول الشيخ عبد المجيد الزنداني (حفظه الله) كنت أقرأ قول الله تعالى : ( كلا لئن لم ينته لنسفعا بالناصية * ناصية كاذبة خاطئة ) [العلق :15] والناصية هي مقدمة الرأس، فكنت أسأل نفسي وأقول: يارب اكشف لي هذا المعنى، لماذا قلت ناصية كاذبة خاطئة ؟ وتفكرت فيها أكثر من عشر سنوات وأنا في هذه الحيرة، فأرجع إلى كتب التفسير فأجد أكثر المفسرين يقولون : المراد ليست ناصية كاذبة وإنما المراد المعنى المجازي وليس المعنى الحقيقي فهو من باب المجاز لا من باب الحقيقة، والتقدير: ناصية كاذب خاطئ، ولما كانت الناصية هي مقدمة الرأس فأطلق عليها صفة الكذب، والمقصود صاحبها، هكذا يقولون وليست هي مكان الكذب أو مصدر الكذب، إلى أن يسر الله البحث الذي كان عن الناصية. قدم من أحد العلماء وهو كندي الأصل ومن أشهرهم في علم المخ والتشريح والأجنة، وكان ذلك في المؤتمر الطبي الذي عقد في القاهرة وتواجد في ذلك المؤتمر طبيب ومعه زوجته، فلما سمعت زوجته كلام المفسرين الذين يقولون : المعنى ناصية كاذب خاطئ، قالت : والهاء أين راحت؟ قلت في نفسي: هذه الهاء هي التي بحثت عنها عشر سنوات لأن الله سبحانه وتعالى يقول لنا ( ناصية كاذبة خاطئة ) وقال الباحث العالم الكندي : منذ خمسين سنة فقط تأكد لنا أن المخ الذي تحت الجبهة مباشرة الذي في الناصية هو الجزء المسئول عن الكذب، والخطأ هو المكان الذي يصدر منه الكذب ويصدر منه الخطأ، وأن العين ترى بها، والأذن تسمع منها، فكذلك كان هذا المكان الذي يصدر منه القرار، هذا مصدر اتخاذ القرار، فلو قطع هذا الجزء من المخ الذي يقع تحت العظمة مباشرة فإن صاحبه -في الغالب- لا تكون له إرادة مستقلة، لا يستطيع أن يختار اجلس .. اجلس .. قم … قم .. امش .. يفقد سيطرته على نفسه، مثل واحد تقلع له عينيه فإنه لا يرى، فقال : منذ خمسين سنة فقط عرفنا أن هذا الجزء هو المسؤول عن هذا المكان الذي يصدر منه القرار … فمن يتخذ القرار ؟ نحن نعلم أن الروح هي صاحبة القرار، وأن الروح هي التي ترى، ولكن العين هي الجارحة، والروح تسمع ولكن الأذن جارحة، كذلك المخ هذا جارحة، لكن في النهاية هذا مكان صدور القرار … ناصية كاذبة خاطئة، ولذلك قال الله : ( لنسفعا بالناصية ) أي نأخذه أو نحرقه. فسبحان الله! كلمة جاءت في كتاب الله، بل حرف واحد وهو الهاء الآن يعرف الناس سره بعد أن يتقدم العلم أشواطا وأشواطا، ثم وجدوا أن هذا الجزء من الناصية في الحيوانات ضعيف صغير لأن الحيوان مركز قيادته وحركة جسمة أيضا من هذا المكان، وإلى هذا يشير المولى سبحانه وتعالى : ( ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها ) [هود 56] مركز القيادة .. موجود في الناصية .. من يعلم هذا ؟ متى عرف العلماء هذا ؟ متى عرفوه ؟ عندما شرحوا مخ الحيوانات .. إن القرآن يذكر هذه الحقيقة وجاء بعلم الله الذي أحاط بكل شيء علما. وفي الحديث الشريف قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "اللهم إني عبدك ابن عبدك ابن أمتك ناصيتي بيدك ... " والناصية : مركز القيادة، ولحكمة شرع الله أن تسجد هذه الناصية وأن تطأطئ لله، ولعل هناك علاقة بين ناصية تسجد خاشعة وبين سلوك يستقيم ( إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر) اهـ [العنكبوت : 45]

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

المقالات

الصوتيات

بحث عن فتوى

يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني