خلاصة الفتوى:
كان الرسول صلى الله عليه وسلم يخالق الناس بالأخلاق الفاضلة، ويعاملهم بما يناسب حسب المقام، وإن اقتضى المقام الشدة والإغلاظ مع الكفار والمنافقين اشتد عليهم وأغلظ عليهم، ويشرع للطالب ملاطفة أصحابه سواء كانوا منافقين أو كفاراً بالقول اللين والمعاملة الحسنة مع التزامه بالحب في الله والبغض فيه والولاء لأوليائه والبراء من غيرهم.
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:
فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان حسن الأخلاق مع الناس وقد أثنى الله عليه بعظيم الخلق فقال: وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ {القلم:4}، وفي حديث الموطأ: إن الله بعثنى لأتمم حسن الأخلاق.
وكان يبتسم في وجوه الناس ويخالقهم بالتي هي أحسن ويحض على ذلك، فقال لمعاذ: اتق الله حيثما كنت، وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن. رواه الترمذي. وكان لا يمنعه من المخالقة الحسنة ولين القول للناس كونهم غير مرضيين أخلاقيا أو دينيا، فقد ذكرت أم المؤمنين عائشة: أنه استاذن عليه رجل فقال: ائذنوا له، فبئس ابن العشيرة، فلما دخل ألان له الكلام، فقلت له يا رسول الله قلت ما قلت ثم ألنت له في القول، فقال: أي عائشة إن شر الناس منزلة عند الله من تركه الناس اتقاء فحشه. متفق عليه. وقد ذكر أصحاب السير في أخلاقه صلى الله عليه وسلم أنه كان لا يطوي بشره عن أحد.
وقد ذكر العيني في شرح البخاري عند شرح قول أبي الدرداء: "إنا لنكشر في وجوه أقوام وإن قلوبنا لتلعنهم" ذكر أنه تشرع المداراة وهي لين الكلمة وترك الأغلاظ لهم في القول وهي من أخلاق المؤمنين.
والمداهنة محرمة والفرق بينهما أن المداهنة هي أن يلقى الفاسق المعلن بفسقه فيؤالفه ولا ينكر عليه ولو بقلبه... والمداراة هي الرفق بالجاهل الذي يستتر بالمعاصي واللطف به حتى يرده عما هو عليه.
هذا، وليعلم أن الكفار عند وقت جهادهم وقتالهم يتعين الإغلاظ عليهم والشدة، لقول الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ قَاتِلُواْ الَّذِينَ يَلُونَكُم مِّنَ الْكُفَّارِ وَلِيَجِدُواْ فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ {التوبة:123}، ولقوله تعالى: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ {التوبة:73}، وكان صلى الله عليه وسلم يشتد عليهم عند الحاجة عملاً بما شرع له في ذلك، كقوله تعالى: قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ {الزمر:64}، ومن ذلك قول الرسول لقريش: إنما جئتكم بالذبح. وقول أبي بكر لعروة بن مسعود: امصص بظر اللات. رواهما أحمد وحسنهما الأرناؤوط.
وأما إن لم يكونوا مقاتلين بأن كانوا معاهدين فيشرع البر والإحسان إليهم، لقول الله تعالى: لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ {الممتحنة:8}، ومن البر طلاقة الوجه ولين الكلام، كما روى البيهقي وابن أبي الدنيا عن ابن عمر أنه قال: البر شيء هين وجه طليق وكلام لين.
ويشرع للطالب أن يعاشر جميع الطلاب معاشرة حسنة ويتكلم معهم، ولكنه يتعين عليه أن يجعل عاطفته ربانية فيحب لله ويبغض لله، فلا يحب الفجار بقلبه، لقول الله تعالى: لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُوْلَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ {المجادلة:22}، ولا يلزم من بغضه لهم أن لا يكلمهم أو يكلح في وجوههم، بل يتعين عليه السعي في هدايتهم ودعوتهم بالتي هي أحسن وعدم الرضى بفجورهم، وينبغي أن يخاطبهم بالقول اللين الحسن ويحسن معاملتهم، عملاً بقوله تعالى: وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْناً {البقرة:83}، وبقوله: فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى {طه:44}، وقوله: ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ {النحل:125}، وبقوله: وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ {العنكبوت:46}، وبقوله: لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ {الممتحنة:8}، وقد عد أهل العلم طلاقة الوجه عند اللقاء من آداب الصحبة والمعاشرة وبوبوا لها في كتب السنة، وراجع في مصادقة الكفار والتعامل معهم الفتاوى ذات الأرقام التالية: 94121، 77010، 23135، 47321، 37526، 19652.
والله أعلم.