للمسجد الأقصى في ذاكرة السنة النبوية مكانة مقدسة عظيمة، ترمز إلى ترابط دعوة الأنبياء، وخاتمية هذه الرسالة، وانتقال القيادة إلى هذه الأمة الوارثة لمكتسبات الأنبياء بحضور مهيب من جمع الأنبياء، فهو مقدس إسلامي خالص، ففي صحيح مسلم عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لقد رأيتني في الحجر وقريش تسألني عن مسراي، فسألتني عن أشياء من بيت المقدس لم أثبتها، فكربت كربة ما كربت مثله قط، فرفعه الله لي أنظر إليه، ما يسألوني عن شيء إلا أنبأتهم به، وقد رأيتني في جماعة من الأنبياء، فإذا موسى قائم يصلي، فإذا رجل ضرب، جعد كأنه من رجال شنوءة، وإذا عيسى ابن مريم عليه السلام قائم يصلي، أقرب الناس به شبها عروة بن مسعود الثقفي، وإذا إبراهيم عليه السلام قائم يصلي، أشبه الناس به صاحبكم - يعني نفسه - فحانت الصلاة فأممتهم، فلما فرغت من الصلاة قال قائل: يا محمد، هذا مالك صاحب النار، فسلم عليه، فالتفت إليه، فبدأني بالسلام».
وقد أفادتنا السنة النبوية أولا بالترتيب الزمني لوجود المسجد الأقصى، وأنه يلي المسجد الحرام في الرتبة والوجود، فقد أخرج مسلم في صحيحه عن أبي ذر رضي الله عنه قال: قلت: يا رسول الله! أي مسجد وضع في الأرض أولاً؟ قال: «المسجد الحرام»، قلت: ثم أي؟ قال: «المسجد الأقصى»، قلت: كم بينهما؟ قال: «أربعون سنة، وأينما أدركتك الصلاة فصل فإنه مسجد».
وأما تحديد من بنى المسجد الأقصى ففي سنن ابن ماجة وصححه غير واحد من أهل العلم عن عبد الله بن عمرو، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « لما فرغ سليمان بن داود من بناء بيت المقدس، سأل الله ثلاثا: حكما يصادف حكمه، وملكا لا ينبغي لأحد من بعده، وألا يأتي هذا المسجد أحد لا يريد إلا الصلاة فيه، إلا خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه»، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «أما اثنتان فقد أعطيهما، وأرجو أن يكون قد أعطي الثالثة».
قال القُرْطبي في تفسيره بعد إيراد هذه الرواية: هناك إشكالٌ بين الحديثين؛ لأن بين إبراهيم الذي رَفَعَ قواعد الكعبة وسليمان آمادًا طويلة، قال أهل التاريخ أكثر من ألف سَنة، فقيل: إن إبراهيم وسُليمان عليهما السلام إنما جدَّدا ما كان أسسه غيرهما، وقد رُوي أن أول من بني البيت ـ في مكة ـ آدم عليه السلام، فيجوز أن يكون غيره من ولده وضع بيت المقدس من بعده بأربعين عامًا، ويجوز أن تكون الملائكة أيضًا بنته بعد بنائها البيت بإذن الله، وكلٌّ مُحْتَمل.
وقد نال المسجد الأقصى شرف الاستثناء النبوي من منع شد الرحال إلى عموم المساجد، مقترنا بخير مسجدين على وجه الأرض المسجد الحرام والمسجد النبوي، ففي صحيح مسلم عن أبي هريرة، يبلغ به النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: مسجدي هذا، ومسجد الحرام، ومسجد الأقصى».
وأيضا دلت السنة على أن المسجد الأقصى لا يدخله الدجال، كما أخرج أحمد في المسند عن جنادة بن أبي أمية قال: أتينا رجلاً من الأنصار من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - فدخلنا عليه فقلنا حدثنا ما سمعت من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا تحدثنا ما سمعت من الناس، فشددنا عليه فقال: قام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فينا فقال: «أنذركم المسيح وهو ممسوح العين أحسبه قال: العين اليسرى، تسير معه جبال الخبز وأنهار الماء، علامته يمكث في الأرض أربعين صباحاً يبلغ سلطانه كل منهل لا يأتي أربعة مساجد الكعبة ومسجد الرسول - صلى الله عليه وسلم - والمسجد الأقصى والطور» . وقال ابن حجر في فتح الباري: رجاله ثقات.
وفي بعض الآثار ما يدل على أن المسجد الأقصى هو المكان الذي ينادى الناس فيه يوم المحشر، فقد روي عن كعب الأحبار: «بيت المقدس أقرب الأرض إلى السماء بثمانية عشر ميلا». أخرجه الطبري عند قوله تعالى: (وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِي الْمُنَادِي مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ) ورجال الإسناد كلهم ثقات، إلا أن كعبا يروي عن كتب أهل الكتاب، ولكن مثل هذا لا يقال من قبيل الرأي، ومعلوم أن كعب الأحبار كان خبيرا بكتاب اليهود.
ودلت السنة النبوية على أن المسجد الأقصى البقعة المحببة إلى نفوس الأنبياء، كما في الصحيحين عن أبي هريرة: أن موسى عند موته سأل الله أن يدنيه من الأرض المقدسة رمية بحجر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فلو كنتُ ثمَّ، لأريتكم قبره إلى جانب الطريق، تحت الكثيب الأحمر».
والشاهد من هذا: أن موسى عليه السلام لما أتاه الموت كان في ذلك الوقت في أرض سيناء، فطلب من ربه أن يحمله مقدار أن يرمي المرء الحجر، أي: هذه السرعة أو مقدار ما أن يرمي الرجل حجرة من بيت المقدس خارج هذا البيت، فحمل الله عز وجل موسى عليه السلام إلى هذا الموضع الكثيب الأحمر فقبض روحه هناك، وهذا يدل على شرف وفضل بيت المقدس وما حوله.
وقد بشر النبي صلى الله عليه وسلم بفتح بيت المقدس كإشارة منه للخلفاء من بعده، كما في صحيح البخاري عن عوف بن مالك، قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك وهو في قبة من أدم، فقال: «اعدد ستا بين يدي الساعة: موتي، ثم فتح بيت المقدس...» الحديث. وكان ذلك في خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه في السنة السادسة عشرة من الهجرة النبوية، كما ذهب إلى ذلك أئمة السيرة، وقد ذهب عمر رضي الله عنه بنفسه إلى بيت المقدس وبنى فيها مسجداً في قبلة بيت المقدس، كما روى الإمام أحمد وحسنه أحمد شاكر من طريق عبيد بن آدم قال: سمعت عمر بن الخطاب يقول لكعب الأحبار: أين ترى أن أصلي؟ فقال: إن أخذت عني صليت خلف الصخرة، فكانت القدس كلها بين يديك، فقال عمر: ضاهيت -شابهت- اليهود، لا، ولكن أصلي حيث صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتقدم إلى القبلة فصلى، ثم جاء فبسط رداءه فكنس الكناسة في ردائه، وكنس الناس.