وأما ما لم يرد فيه نص يُعيْنُ على تنزيله، أو قرائن بينة واضحة، فلا ينبغي المغامرة في تنزيله لأدنى مشابهة، كما قال القرطبي في التذكرة: "والذي ينبغي أن يقال به في هذا الباب أن ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم من الفتن والكوائن أنَّ ذلك يكون، وتعيين الزمان في ذلك من سنة كذا يحتاج إلى طريق صحيح يقطع العذر، وإنما ذلك كوقت قيام الساعة؛ فلا يعلم أحد أيّ سنة هي ولا أيّ شهر".
أمثلة على تعامل الصحابة مع أحاديث الفتن في ضوء الضابط السابق:
قال فقلنا لحذيفة: هل كان عمر يعلم من الباب؟ قال: نعم، كما يعلم أن دون غد الليلة، إني حدثته حديثا ليس بالأغاليط، قال فهبنا أن نسأل حذيفة: من الباب؟ فقلنا لمسروق: سله، فسأله، فقال: عمر.
المثال الثالث: ما جاء في صحيح البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت الصادق المصدوق يقول: «هلاك أمتي على يدي غلمة من قريش». فقال مروان: غلمة؟ قال أبو هريرة: إن شئت أن أسميهم بني فلان وبني فلان.
المثال الرابع: من التنزيل بالقرائن: ما جاء في صحيح مسلم في قصة قتل ابن الزبير، وفيه قول أسماء بنت أبي بكر للحجاج: أما إن رسول الله صلى الله عليه وسلم حدثنا: «أن في ثقيف كذاباً ومُبِيراً» فأما الكذاب فرأيناه، وأما المُبير فلا إِخالُك إلا إياه، قال فقام عنها ولم يراجعها.
وقد أورد الترمذي بعد روايته لهذا الحديث ما يؤكد ذلك من الواقع، فروى عن هشام بن حسان قال: «أحصَوا ما قتل الحجاج صبرا فبلغ مائة ألف وعشرين ألف قتيل». قوله "مُبير": بضم ميم وكسر موحدة أي: مفسد ومهلك من البوار، وهو الهلاك والفساد وتنوينهما للتعظيم.
فالقرينة واضحة على أنهما المقصودان بهذا الخبر، فكلاهما من ثقيف، وأحدهما كذاب وهو المختار، والثاني مفسد وقاتل، فكان انطباق الخبر عليهما واضحا.
المثال الخامس: ما روى البخاري عن حارثة بن وهب قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «تصدقوا، فإنه يأتي عليكم زمان، يمشي الرجل بصدقته فلا يجد من يقبلها، يقول الرجل: لو جئت بها بالأمس لقبلتها، فأما اليوم فلا حاجة لي بها».
قال القسطلاني في إرشاد الساري: ويحتمل أن يكون إشارة إلى ما وقع في زمن عمر بن عبد العزيز وبه جزم البيهقي.
وأما اجتهادات العلماء في تنزيل بعض النصوص على بعض الوقائع فمن باب الاجتهاد الذي لا يخلو من القرائن التاريخية والواقعية، كما في صحيح البخاري من حديث: حذيفة بن اليمان يقول: كان الناس يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخير وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني، فقلت: يا رسول الله إنا كنا في جاهلية وشر، فجاءنا الله بهذا الخير، فهل بعد هذا الخير من شر؟ قال: «نعم»، قلت: وهل بعد ذلك الشر من خير؟ قال: «نعم وفيه دخن»، قلت: وما دخنه؟ قال: «قوم يهدون بغير هديي، تَعْرِفُ منهم وتُنْكِر»، قلت: فهل بعد ذلك الخير من شر؟ قال: «نعم دعاةٌ إلى أبواب جهنم من أجابهم إليها قذفوه فيها»، قلت: يا رسول الله صفهم لنا، فقال: «هم من جلدتنا، ويتكلمون بألسنتنا»، قلت: فما تأمرني إن أدركني ذلك؟ قال: «تلزم جماعة المسلمين وإمامهم»، قلت: فإن لم يكن لهم جماعة ولا إمام؟ قال: « فاعتزل تلك الفرق كلها ولو أن تعض بأصل شجرة حتى يدركك الموت وأنت على ذلك».
قال الوزير ابن هبيرة في الإفصاح: الخير الصريح كان في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعهد أبي بكر وعمر وعثمان، حتى جرى ما جرى من الشر الذي انتهى إلى القتل بعثمان رضي الله عنه، وأنه أعقبه بعد ذلك الخير الذي كان في زمان عثمان رضي الله عنه من إمامته إلا أنه كان فيه من الدخن الذي ظهر واشتهر مما جرى في زمن علي من تنكر الأحوال وتزلزل الأقدام حتى جرى بين الصحابة في يوم الجمل وصفين وغير ذلك ما جرى ذلك الذي يعرف منه وينكر، وأن بعد ذلك الخير شرًا، وهو أن الدعاة بالدين على باب جهنم ممن كان من الولاة الذين جرى منهم ما جرى في الحرة وكربلاء والبلد الحرام.
قال القرطبي في المفهم في قوله "خير فيه دخن": الأولى أن الإشارة بذلك إلى مُدّة خلافة معاوية فإنها كانت تسع عشرة سنة وثلاثة أشهر، وهي مدّة الهدنة التي كان فيها الدَّخَن؛ لأنه لما بايع الحسنُ معاويةَ، واجتمع الناس عليه، كره ذلك كثير من الناس بقلوبهم، وبقيت الكراهة فيهم، ولم تُمكِنُهم المخالفة في مدة معاوية، ولا إظهارها إلى زمن يزيد بن معاوية فأظهرها كثير من الناس، ومدة خلافة معاوية كان الشرّ فيها قليلًا والخير غالبًا، فعليهم يصدق قوله عليه الصلاة والسلام "تعرف منهم وتنكر"، وأمَّا خلافة ابنه فهي أول الشرِّ الثالث؛ فيزيد وأكثر ولاته ومن بعده من خلفاء بني أميةَ هم الذين يَصدُق عليهم أنّهم دُعَاةٌ على أبواب جهنم، من أجابهم إليها قذفوه فيها، فإنهم لم يسيروا بالسَّواء ولا عدلوا في القضاء، يدل على ذلك تَصَفُّحُ أخبارهم ومطالعةُ سِيَرهم، ولا يُعتَرضُ على هذا بمدة خلافة عمر بن عبد العزيز بأنها كانت خلافة عدل لقصرها وندورها في بني أمية، فقد كانت سنتين وخمسة أشهر، فكأنَّ هذا الحديث لم يتعرض لها، والله تعالى أعلم.
وأما بعض التنزيلات المعاصرة التي لا تقوم على أساس من النصوص، أو الآثار، أو القرائن، أو المطابقة بالواقع، فإنها عبث بالنصوص، وجهالات لا علاقة لها بالعلم، وقد صدرت مجموعة من الكتابات والتنبؤات التي أثبت الواقع زيفها، ولا تزال تصدر مع كل حدث إسقاطات جديدة، وتخرصات بعيدة، سواء ما يتعلق بأحاديث المهدي، أو المسيح الدجال، أو بقوم يأجوج ومأجوج، أو بالملاحم التي تحدث في آخر الزمان، أو بالتنبؤات حول الخلافة الراشدة، وأن فلان هو السفياني، وفلان هو القحطاني، وأن الجماعة الفلانية هم المقصودون بحديث الرايات السود، وأن المعركة الفلانية هي المقصودة بأحاديث قتال اليهود في آخر الزمان، والقطع بأن الزمن الذي نحن فيه هو زمن ظهور المهدي وغيره من أشراط الساعة، وهكذا قراءات متنوعة ومتناقضة، وتنزيلات متعجلة تدخل في القول على الله بغير علم.