وفي السنة النبوية معالم واضحة لمراعاة هذه السنن، فتربية النبي صلى الله عليه وسلم للصحابة قامت على ذلك، فقد نقلهم من العشوائية والمزاجية إلى الاعتبار بالسنن، ومراعاة قوانين الحياة، والاستبصار بها في مسيرتهم الخالدة.
فسنة الابتلاء وما يتلوها من التمكين واضحة جلية في السنة النبوية، سواء في النصوص القولية، أو السيرة العملية، فقد دلت بأجمعها على أن الابتلاء إرادة ماضية لا تتخلف في حق المؤمنين، وأن اعتناق الإسلام لا يستلزم التمكين مباشرة، ففي حديث خباب بن الأرت في صحيح البخاري قال: شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو متوسد بردة له في ظل الكعبة، قلنا له: ألا تستنصر لنا، ألا تدعو الله لنا؟ قال: «كان الرجل فيمن قبلكم يحفر له في الأرض، فيجعل فيه، فيجاء بالمنشار فيوضع على رأسه فيشق باثنتين، وما يصده ذلك عن دينه. ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه من عظم أو عصب، وما يصده ذلك عن دينه، والله ليتمن هذا الأمر، حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت، لا يخاف إلا الله، أو الذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون».
لقد كان هذا التوجيه النبوي درسا عظيما في الاعتبار بالسنن الإلهية المتعلقة بالابتلاء والنصر والتمكين، فمجرد اعتناق الحق لا يعني تحقق التمكين على الفور، ولا يستلزم تنزل النصر الإلهي من أول مرة، بل يأتي ذلك وفق سنن متكاملة، وأسباب مادية ومعنوية.
مع أن خباب رضي الله عنه لم يتعجل النصر لأمر يسهل احتماله، بل قد جاء يشكو لرسول الله صلى الله عليه وسلم اشتداد العذاب، وتسلط المشركين، فقد كانوا يسحلونه ومن معه في الرمضاء، ويضعون عليهم الحجارة شديدة الحرارة، وهو يعلم أن دعوةً من النبي صلى الله صلى الله عليه وسلم ستغير المعادلة، ولكن الأمر أعمق من ذلك، فهم كانوا في مرحلة تأسيس وبناء، وسيكون على عاتقهم حمل الرسالة للأمم والحضارات، وبالتالي فلا بد أن ينالهم من الابتلاء ما يصلب به عودهم، وتتقوى به عزائمهم، وهو درس بالغ الأهمية لمن بعدهم، فمن يعمل مع الله، ويبلغ رسالته لا ينبغي له الاستعجال، ولا يقبل منه الغفلة عن السنن التي أجراها الله على الجماعات المؤمنة في الأمم السابقة، فهي سنن لا تتبدل ولا تتغير، ولا تحابي أحدا من الخلق.
وقد دلت السنة النبوية على سنة أخرى متعلقة بسنة الابتلاء وهي: أن درجات الناس في الابتلاء مرتبة على درجاتهم في الإيمان، فالناس يتفاضلون في كمال الإيمان ونقصانه، وبناء عليه يتفاوتون في شدة الابتلاء وتخفيفه، وهذه سنة ماضية في عباده، ففي صحيح البخاري عن سعد بن أبي وقاص، قال: قلت: يا رسول الله أي الناس أشد بلاء؟ قال: «الأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل، يبتلى العبد على حسب دينه، فإن كان في دينه صلبا، اشتد بلاؤه، وإن كان في دينه رقة، ابتلي على حسب دينه».
وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم كثيرا ما يقص عليهم أخبار السابقين التي تؤكد على أن النصر والتمكين يتنزل على المؤمنين وفق سنن الله الجارية؛ حتى تتشبع نفوسهم بفقه السنن الإلهية، ويتمثلوها في مسيرتهم الإيمانية والدعوية، فأكسبهم ذلك واقعية في تصوراتهم وتعاملهم مع أعدائهم.
ومن ذلك: حديث صهيب الذي رواه مسلم في صحيحه عن قصة الغلام الطويلة «كان ملك فيمن كان قبلكم، وكان له ساحر، فلما كبر قال للملك: إني قد كبرت، فابعث إلي غلاما أعلمه السحر. فبعث إليه غلاما يعلمه..» إلى آخر الحديث.
فهذا الخبر النبوي الذي قصه على أصحابه لم يكن ترفا من القول، أو لمجرد السرد التأريخي، بل كان يعمق في نفوسهم السنن الإلهية، وأن سنة الله في المؤمنين ابتلاؤهم قبل تمكينهم، وأن النصر قد لا يكون بالظهور في الأرض، وامتلاك مقاليد الأمور، بل قد يكون بالاستشهاد في سبيل إيصال الحق، وأن المؤمن قد يقبضه الله قبل أن يرى آثار جهاده ودعوته، فالنصر لا يقاس بالأعمار والمدد الزمنية اليسيرة، فكما أن لكل أمة أجل، فإن لكل نصر أجلاً يتنزل فيه بحكمته وتقديره، وأن الباطل مهما طال ليله فإن نور الحق سيمحوه كأن لم يكن، وأن الطغاة يؤخذون بسنة الاستدراج والإمهال مهما تقلبوا بقوتهم وغرورهم، هذا وغيره ظاهر في القصص النبوي الذي كان حاضرا في مجالس رسول الله صلى الله عليه وسلم وخطاباته التربوية والإيمانية.
وكان صلى الله عليه وسلم يبشرهم بما يطمئن نفوسهم، فيخبرهم بسنة الله الماضية في بلوغ هذه الرسالة إلى كل بقعة في الأرض، وانتشار أمر هذا الدين بقدره الكوني والشرعي، كما في صحيح مسلم عن ثوبان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « إن الله زوى لي الأرض، فرأيت مشارقها ومغاربها، وإن أمتي سيبلغ ملكُها ما زُوِي لي منها، وأُعطيت الكنزين الأحمر والأبيض، وإني سألت ربي لأمتي أن لا يهلكها بِسَنةٍ بعامة، وأن لا يسلط عليهم عدوا من سوى أنفسهم فيستبيح بَيْضتهم، وإن ربي قال: يا محمد، إني إذا قضيت قضاء فإنه لا يرد، وإني أعطيتك لأمتك أن لا أهلكهم بِسَنةٍ بعامة، وأن لا أسلط عليهم عدوا من سوى أنفسهم يستبيح بيضتهم، ولو اجتمع عليهم من بأقطارها أو قال: من بين أقطارها حتى يكون بعضهم يهلك بعضا، ويسبي بعضهم بعضا».
وقد ورد في الحديث سنن أخرى، ومنها أن الله كتب لهذه الأمة البقاء وعدم الهلاك، فقد كانت الأمم قبلها تهلك بنزول العذاب الذي يستأصلهم بالكامل، وأن الله لن يسلط على الأمة من يستبيح حوزتها بالكلية، فالإسلام باقٍ عزيز ما بقيت الدنيا، وهذا لا يمنع من أن يمر على المسلمين مراحل من الضعف، لكن لا يستطيع عدوهم الخارجي أن يقضي عليهم، "ولو اجتمع عليهم من بأقطارها"، فهذه سنة ماضية لا تتبدل.
وفقه هذه السنن وغيرها في بناء الإنسان وتكوينه من لحظات النشأة أمر في غاية الأهمية، يعصمه بإذن الله من التخبط والعشوائية، ويعينه على تصور مصاعب الطريق واستيعابها، وضعف الفقه بها في هذه الأزمنة المتأخرة أدى إلى تراجع كبير في معنويات بعض المسلمين، وظهرت بسببه بعض المشاريع المتعجلة التي لا تفقه السنن الإلهية، وربما فشلت بعض الدعوات والجماعات التي لا تراعي سنن الابتلاء والتمكين، ما يجعل الحاجة ماسة إلى دراسة السنن وقوانين الكون في القرآن الكريم والسنة النبوية، وجعلها موجهة للخطط والمشاريع الدعوية والإصلاحية، وتأسيس الجيل بناء على هذا الوعي المستبصر، حتى لا يقع الناس في مصادمة السنن، ومعاندة قوانين الحياة.