الخطأ لحظة ضعف بشرية، وهو جزء من تركيبة الإنسان التي خلقه الله عليها، وتدعيم هذا المفهوم أقرب طريق للتخلص من الأخطاء، إذ النفس البشرية تأنف من نسبة الخطأ إليها، فكان لزاما على المربين أن يتعلموا فن تصويب الخطأ، ومهارة تقويم العوج، وقد بلغ النبي صلى الله عليه وسلم في هذا مبلغ الحكمة التامة، فهو طبيب النفوس، وسابر أغوارها، ومن خلال التأمل في الأحاديث والمواقف النبوية يسهل على المربي معالجة الخطأ بطرق بالغة الأثر في نفوس المتلقين.
مما يبدأ به في هذا الشأن قاعدة: " لا يجوز في حقّ النبي صلى الله عليه وسلم تأخير البيان عن وقت الحاجة "، ومن ثم فالخطأ أمام النبي صلى الله عليه وسلم غير مُقَرّ، إذ لو سكت لكان سكوته سنة تقريرية ولا يملك أحد إنكار ما لم ينكره النبي صلى الله عليه وسلم، ولما كان إنكاره مسددا بالوحي فإن طريقته في الإنكار أتم وأكمل وأبلغ تأثيراً في نفوس الناس.
تصحيح التصورات التي تنشأ عنها الأخطاء:
بدلا من التنبيه على أفراد الأخطاء والسلوكيات التي تحصل من المتربي، فإن الالتفات لتصحيح التصورات، وتخليص الخلفيات من الشوائب والأفكار المغلوطة يكون أكثر نفعا، وأخصر جهدا على المربي، وقد كان هذا من هدي النبي صلى الله عليه وسلم في إنكار الأخطاء وتصحيحها.
على سبيل المثال: صحح النبي _صلى الله عليه وسلم_ بعض التصورات الاجتماعية المتعلقة بمعيارية التعامل مع الناس، وخطأ المقاييس المادية في تقويم الآخرين، حبا وبغضا، وعطاء ومنعا، لأن هذا الخطأ أساس لكثير من الأخطاء الحاصلة في أي مجتمع يزن الناس بأشكالهم وأموالهم وأنسابهم، فعن سهل بن سعد الساعدي أنه قال: مرَّ رجلٌ على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لرجل عنده جالس: ما رأيك في هذا؟ فقال: رجل من أشراف الناس هذا والله حري إن خطب أن ينكح، وإن شفع أن يشفع، قال: فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم مر رجل آخر فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما رأيك في هذا؟ فقال: يا رسول الله هذا رجل من فقراء المسلمين، هذا حري إن خطب أن لا ينكح، وإن شفع أن لا يشفع، وإن قال أن لا يسمع لقوله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «هذا خير من ملء الأرض مثل هذا».
ومن ذلك: مسارعته لتصحيح التصور الخاطئ الذي نشأ في أذهان بعض الصحابة حين جنحوا إلى التبتل والرهبنة، وأخذوا أنفسهم بالشدة في العبادة، بناء على ظنهم أن قلة عبادة النبي _صلى الله عليه وسلم_ لكونه مغفورا له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وأما هم فعليهم مضاعفة الجهد والاجتهاد للوصول للمغفرة، ولو أدى بهم هذا الأمر إلى تجاوز الهدي النبوي في العبادة، فصحح لهم هذا الفهم الخاطئ، وبين لهم أن مقتضى عبادته بهذا الخط المعتدل هو كونه أعلم الناس بالله وأخشاهم له، وأن التوسط في العبادة هو عين الخشية لله، لما في الإيغال والتشدد من مغبة الفتور والانقطاع بالكلية.
ففي صحيح البخاري عن أنس بن مالك رضي الله عنه يقول: جاء ثلاثة رهط إلى بيوت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم يسألون عن عبادة النبي صلى الله عليه وسلم فلما أخبروا كأنهم تقالوها فقالوا وأين نحن من النبي صلى الله عليه وسلم قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر قال أحده:م أما أنا فإني أصلي الليل أبدا، وقال آخر: أنا أصوم الدهر ولا أفطر وقال آخر: أنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبدا، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم فقال: «أنتم الذين قلتم كذا وكذا، أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له لكني أصوم وأفطر وأصلي وأرقد وأتزوج النساء فمن رغب عن سنتي فليس مني».
فأعلمهم أنهم مهما شددوا على أنفسهم وبالغوا في التعمق في العبادة فلن يكونوا أخشى لله منه، وبتصحيح هذا المفهوم تتلاشى معه كثير من مظاهر الغلو والتنطع في الدين، وهذا من فقه النبي _صلى الله عليه وسلم_ فلم ينشغل بإقناعهم في ما حصل منهم من تحريم النوم والأكل والنساء، وإنما صحح لهم التصور الفكري الخاطئ الذي أوجب لهم هذه السلوكيات المتهورة، وبناء على هذا المفهوم فإننا نحكم بخطأ كل مظاهر الغلو والرهبنة التي تكون مجانبة لأصل الاتباع والاقتداء.
إنكار الخطأ ينبغي أن يتسم باللين والرفق في أغلب الأحوال:
فقد أخرج مسلم في صحيحه عن معاوية بن الحكم السلمي قال: بينا أنا أصلي مع رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ إذ عطس رجل من القوم , فقلت: يرحمك الله فرماني القوم بأبصارهم , فقلت: واثكل أمياه ما شأنكم تنظرون إلي؟ فجعلوا يضربون بأيديهم على أفخاذهم , فلما رأيتهم يصمتونني سكت , فلما صلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فبأبي هو وأمي ما رأيت معلما قبله ولا بعده أحسن تعليما منه, فوالله ما كهرنى ولا ضربني ولا شتمني , قال: «إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس إنما هو التسبيح والتكبير وقراءة القرآن».
الإنكار بلطف على أصحاب الفضل ومن لم يعهد عليهم تكرار الخطأ:
في صحيح ابن خزيمة عن أسماء بنت أبي بكر قالت : خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حجاجا ، وإن زمالة رسول الله صلى الله عليه وسلم وزمالة أبي بكر واحدة ، فنزلنا العرج ، وكانت زمالتنا مع غلام أبي بكر قالت: فجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم وجلست عائشة إلى جنبه ، وجلس أبو بكر إلى جنب رسول الله صلى الله عليه وسلم من الشق الآخر وجلست إلى جنب أبي ننتظر غلامه وزمالتنا متى يأتينا، فطلع الغلام يمشي ما معه بعيره قال: فقال له أبو بكر : أين بعيرك ؟ قال : أضلني الليلة قال: فقام إليه أبو بكر يضربه، ويقول: بعير واحد أضللت وأنت رجل فما يزيد رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن يتبسم، ويقول: «انظروا إلى هذا المحرم، وما يصنع».
معنى: زمالة: قال في عون المعبود: قوله: وإن زمالة رسول الله صلى الله عليه وسلم وزمالة أبي بكر واحدة): بكسر الزاي أي مركوبهما وما كان معهما من أداوت السفر واحدا.
قال ابن كثير: يستفاد من قول النبي -صلى الله عليه وسلم- عن أبي بكر: «انظروا إلى هذا المُحْرِم ما يصنع». -كهيئة الإنكار اللطيف -أن الأولى تركُ ذلك، والله أعلم. أ.هـ.
ومع أن ضرب الغلام خطأ حصل من أبي بكر -رضي الله عنه- لكن الغلام قد فعل ما يوجب الزجر، وأبو بكر لم يكن من عادته ضرب الغلمان أنكر عليه النبي _صلى الله عليه وسلم_ إنكارا لطيفا كما سماه ابن كثير أعلاه.
بينما قد يشتد إنكاره _صلى الله عليه وسلم_ على نفس الخطأ في ظروف أخرى؛ لاختلاف أحوال المنكر عليه كما في صحيح مسلم من حديث أبي مسعود: أنه ضرب غلامه بالسوط، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: «اعلم أبا مسعود أن الله أقدر عليك منك على هذا الغلام»، وفي رواية أبي داود: فالتفت فإذا هو النبي صلى الله عليه وسلم فقلت يا رسول الله: هو حر لوجه الله تعالى، قال: «أما إنك لو لم تفعل للفعتك النار أو لمستك النار».