ورد في السُّنة النّبويّة مجموعة من الأحاديث في الأضحية تبيّن أحكامها، وفضلها، والسِّنَّ المعتبر فيها، والعيوب التي لا تجزئ معها، والوقت الذي تجزئ فيه، وما يؤكل من لحومها وما يدخر، وكيفية ذبحها، نجمعها في موضع واحد مقسّمة حسب موضوعاتها.
فضل الأضحية: وردت أحاديث كثيرة في فضل الأضحية، لكن الصّحيح منها أقل من الضعيف، ومما صحّ في الباب: ما رواه الترمذي وصححه الألباني، عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ما عمل آدمي من عمل يوم النّحر أحبُّ إلى الله من إهراق الدّم، إنّها لتأتي يوم القيامة بقرونها وأشعارها وأظلافها، وأن الدم ليقع من الله بمكان قبل أن يقع من الأرض، فطيبوا بها نفسا).
وهي سنّة المسلمين، ولا يزالون يفعلونها ويعتنون بالقيام بها، فقد روى البخاري عن البراء بن عازب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلّم قال: (من ذبح بعد الصلاة فقد تم نسكه وأصاب سنة المسلمين)، وهي مما داوم على فعلها النبي صلى الله عليه وسلم منذُ شرعت، فعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: (أقام النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة عشر سنين يضحي) أخرجه أحمد والترمذي، وسنده حسن.
ومن الضعيف الذي يورده العلماء في هذا الباب، مما يتسامحون في روايته في باب الفضائل، ما أخرجه الحاكم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لفاطمة: (قومي إلى أضحيتك فاشهديها، فإنه يغفر لك عند أول قطرة من دمها كل ذنب عملتيه)، ومنه ما رواه الإمام أحمد وابن ماجه عن زيد بن أرقم قال: قال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله، ما هذه الأضاحي؟ قال: (سنة أبيكم إبراهيم عليه الصلاة والسلام)، قالوا: فما لنا فيها يا رسول الله؟ قال: (بكل شعرة حسنة)، قالوا: فالصّوف يا رسول الله؟ قال: (بكل شعرة من الصوف حسنة).
وعلى كل حال فإن عدم ثبوت دليل يبين الثواب الخاص في الأضحية لا يدعو للتساهل في فعلها، فهي قربة وعبادة، وثواب فاعلها عظيم محفوظ عند الله، لما فيها من معاني التوحيد ونيل التقوى، والائتساء بالخليل إبراهيم -عليه الصلاة والسلام-، وبذل المال على وجه التعبد، والتوسعة على النفس والعيال، والتصدق على الفقراء، فلا يضر عدم ورود الدليل الخاص في ثوابها.
حكمها: اختلف الفقهاء في حكمها بناء على خلافهم في دلالات ظواهر الأحاديث والآثار، فقال الجمهور بأنها سنة، وعن أبي حنيفة ورواية عن مالك بوجوبها، والذي يهمنا في هذا البحث هل ورد في السنة ما يدل على الوجوب؟
هناك بعض الأحاديث والآثار التي تمسك بها من قال بالوجوب من الفقهاء، لكن تلك الأحاديث والآثار لم تسلم من إيرادات الجمهور القائلين بالاستحباب، قال ابن حجر: وأقرب ما يتمسك به للوجوب حديث أبي هريرة رفعه: (من وجد سعة فلم يضح فلا يقربن مصلانا) أخرجه ابن ماجه وأحمد ورجاله ثقات، لكن اختلف في رفعه ووقفه، والموقوف أشبه بالصواب، قاله الطحاوي وغيره، ومع ذلك فليس صريحا في الإيجاب، وجزم الطحاوي بأنه لم يرد في الآثار ما يدل على وجوبها، وقال: هي سنة غير مرخص في تركها.
ومن الأدلة على الوجوب من السنة: ما ورد في حديث مخنف بن سليم رفعه: (على أهل كل بيت أضحية) أخرجه أحمد والأربعة بسند قوي، وقد رد عليه القائلون بالاستحباب: بأنه لا حجة فيه؛ لأن الصّيغة ليست صريحة في الوجوب المطلق.
ومما استُدِل به من الأحاديث على الوجوب: أمر النبي صلى الله عليه وسلم الله عليه وسلم أبا بردة بن نيار بإعادة النسك لما ذبح قبل الصلاة، كما في الصحيحين عن البراء بن عازب، أن خاله أبا بردة بن نيار ذبح قبل أن يذبح النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، إن هذا يوم اللحم فيه مكروه، وإني عجلت نسيكتي لأطعم أهلي وجيراني وأهل داري، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أعِدْ نُسُكاً)، وأجيب عن الاستدلال بالحديث: بأن المقصود بيان شرط الأضحية المشروعة، وأنه لا بد من مراعاة الوقت الذي تجزئ فيه، فهو كما لو قال لمن صلى راتبة الضحى مثلا قبل طلوع الشمس إذا طلعت الشمس فأعد صلاتك.
سِنُّها المعتبر: حددت السنةُ أسنان بهيمة الأنعام التي تجزئ في الأضاحي، عن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تذبحوا إلا مُسِنَّةً إلا أن يَعْسُرَ عليكم ، فتذبحوا جَذَعَةً من الضأن) أخرجه مسلم، والمُسِنَّة: بضم الميم ، وكسر السين، والنون المشددة، وهي الكبيرة بالسن، فمن الإبل ما تم له خمس سنين ، ومن البقر ما تم له سنتان ، ومن الغنم ما تم له سنة ، وهذا هو الثني من بهيمة الأنعام، قال الإمام النووي: وأجمعت الأمة على أنه لا تجزئ من الإبل والبقر والمعز إلا الثَّنِي.
ويستثنى من الغنم الضأن فتجوز التضحية به إذا كان جذعاً، وهو ما تم له ستة أشهر، وظاهر الحديث أنه لا يجزئ الجذع من الضأن إلا عند تعسر المسنة إما بفقدها أو العجز عن ثمنها، لكن حمله الجمهور على الاستحباب، فقالوا تجزئ الجذعة من الضأن ولو مع وجود الثنية، لأدلة أخرى تدل بمجموعها على جواز التضحية بالجذع.
كيفية الذبح: وردت الأحاديث في بعض السنن التي ينبغي مراعاتها في ذبح الأضحية كالتسمية والتكبير، وحَدِّ السكين وغيرها، فمن ذلك ما أخرجه البخاري ومسلم عن أنس قال: (ضحى النبي بكبشين أملحين أقرنين ذبحهما بيده ، وسَمَّى وكَبَّرَ ، ووضع رجله على صِفَاحِهِمَا).
ويُستحب التكبير بعد التسمية كما في حديث أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم بمثله غير أنه قال: (ويقول: باسم الله والله أكبر) رواه مسلم.
ويُسمي من هي له؛ كما في سنن أبي داود وصححه الألباني عن جابر بن عبد الله قال: أُتِيَ بكبش فذبحه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بيده وقال: (بسم الله والله أكبر، هذا عني وعمن لم يضح من أمتي).
ويدعو بالقبول؛ لقوله صلى الله عليه وسلم في حديث عائشة رضي الله عنها وفيه: (اَللَّهُمَّ تَقَبَّلْ مِنْ مُحَمَّدٍ وَآلِ مُحَمَّدٍ، وَمِنْ أُمّةِ مُحَمَّدٍ) رواه مسلم.
ويسن أن يحد السكين حتى يريح الذبيحة، كما في صحيح مسلم عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لها: (يا عائشة هلمي المُدْية "السكين"، ثم قال: اشحذيها بحجر)، ففعلت ثم أخذها وأخذ الكبش فأضجعه، ثم ذبحه، ثم قال: (باسم الله، اللهم تقبل من محمد وآل محمد ومن أمة محمد)، ثم ضحى به.
فإن كانت الأضحية بدنة نحرها قائمة كما في صحيح مسلم عن ابن عمر: أنه أتى على رجل وهو ينحر بدنته باركة، فقال: ابعثها قياما مقيدة سنة نبيكم صلى الله عليه وسلم.
وقتها: حددت الأحاديث الوقت المجزئ فيه ذبح الأضحية، فبين أن وقت الإجزاء يبدأ من بعد صلاة العيد، كما في صحيح البخاري عن جندب بن سفيان البجلي قال: ضحينا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أضحية ذات يوم فإذا أناس قد ذبحوا ضحاياهم قبل الصلاة فلما انصرف رآهم النبي صلى الله عليه وسلم أنهم قد ذبحوا قبل الصلاة فقال: (من ذبح قبل الصلاة فليذبح مكانها أخرى ومن كان لم يذبح حتى صلينا فليذبح على اسم الله).
ويستمر إلى آخر أيام التشريق، على خلاف بين الفقهاء، هل يمتد لثلاثة أيام بعد العيد، أم ليومين فقط، قال بالأول الشافعي ومن وافقه، وبالثاني الأئمة الثلاثة، قال ابن القيم: وروي من وجهين مختلفين يشد أحدهما الآخر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (كل منى منحر، وكل أيام التشريق ذبح).
أفضل ما يضحى به من بهيمة الأنعام: روى أبو داود بإسناد صحيح عن عبادة بن الصامت -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (خير الأضحية الكبش الأقرن)، والأقرن: ما له قرنان حسنان أو معتدلان، قال الطيبي: ولعل فضيلة الكبش الأقرن على غيره لعظم جثته وسمنه في الغالب، ولكن هذا الفضل والله أعلم يوجه إلى التفضيل بين الكبش وما يماثله، فلا يكون الكبش أفضل من البدنة أو البقرة؛ فجمهور الفقهاء فضلوا الأضحية بالبدنة على غيرها، لأنها تجزئ عن سبعة، ولأنها أكثر لحما، وبالجملة فكلما كانت الأضحية أكثر لحما كانت أعظم فضلا وأكثر أجرا.
العيوب التي تمنع الإجزاء: ورد في السنة عدُّ أربعةِ عيوب لا يحصل معها الإجزاء في الأضحية، وهي: ما استبان فيها العور أو العرج أو المرض أو الهزال، ويلحق بها ما في معناها، مما يساويها أو يكون أوضح منها في الشين، فقد روى الترمذي عن البراء بن عازب قال: قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (أربع لا تجوز في الأضاحي - وفي رواية : لا تجزئ - العوراء البين عَورُها ، والمريضة البين مرضها ، والعرجاء البين ظَلَعُها ، والكسيرة التي لا تُنْقِي) أخرجه أبو داود والترمذي والنسائي وغيرهم، وقال الترمذي: حديث حسن صحيح، قال النووي : وأجمعوا أن العيوب الأربعة المذكورة في حديث البراء لا تجزئ التضحية بها ، وكذا ما كان في معناها أو أقبح منها كالعمى وقطع الرجل وشبهه انتهى.
(العوراء البين عورها): وهي التي انخسفت عينها أو برزت ، فإن كان على عينها بياض ولم تذهب جازت التضحية بها، لأن عورها غير بين، ويلحق بالعوراء العمياء من باب أولى، فإنها لا تجزئ وإن لم تنخسف عينها، لأن العمى يمنع مشيها مع رفيقاتها ويمنعها من المشاركة في العلف، (العرجاء البين ظَلْعُها) بفتح الظاء وسكون اللام: أي عرجها، وهو العرج الذي يمنعها المشي، (الكسيرة): المهزولة، (التي لا تُنْقِي) من الإنقاء أي التي لا نقي لها بكسر النون وإسكان القاف وهو المخ.
جواز ادخار لحم الأضحية ونسخ النهي عن ذلك: في صحيح مسلم عن أبي سعيد الخدري، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا أهل المدينة، لا تأكلوا لحوم الأضاحي فوق ثلاث) - وقال ابن المثنى: فشكوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لهم عيالا، وحشما، وخدما، فقال: (كلوا، وأطعموا، واحبسوا، أو ادخروا)، وفي صحيح مسلم أيضا عن بريدة بن الحصيب: (كنت نهيتكم عن لحوم الأضاحي فوق ثلاث، فأمسكوا ما بدا لكم).
وأما ما رواه مسلم عن عقبة بن عامر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطاه غنما يقسمها على أصحابه ضحايا، فبقي عَتُود فذكره لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (ضحِّ به أنت). العتود: قال ابن بطال : العتود الجذع من المعز ابن خمسة أشهر، فقد حمله البيهقي على أنه رخصة خاصة بعقبة بن عامر كما هي الرخصة بالعناق لأبي بردة بن نيار وقد مر معنا، ويعضد هذا التأويل زيادة البيهقي (ضح بها أنت ، ولا رخصة فيها لأحد بعدك)، قال النووي: وهذا التأويل الذي قاله البيهقي وغيره متعين.