من المواضيع التي كانت موضع عناية في السنة النبوية، موضوع التوكل على الله، وهو لب العبودية وجوهرها، فمن صدق توكله على الله فقد عرج إلى أعلى مقامات العبودية وأرفعها.
معنى التوكل على الله:
قال ابن القيم: هو اعتماد القلب على الله وحده، فلا يضره مباشرةُ الأسباب مع خلوِّ القلب من الاعتماد عليها والركون إليها، كما لا ينفعه قوله توكلتُ على الله مع الاعتماد على غيره وركونه إليه وثقته به، فتوكل اللسان شيء وتوكل القلب شيء.
ثمرات التوكل على الله من خلال السنة النبوية:
إذا استقر في القلب حقيقة التوكل أورث ثمرات في الدنيا والآخرة فمن ثمراته في الدنيا التي دلت عليها السنة النبوية: الطمأنينة والسكينة، ففي الصحيحين عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه قال: نظرت إلى أقدام المشركين على رؤوسنا ونحن في الغار , فقلت يا رسول الله , لو أن أحدهم نظر إلى قدميه , أبصرنا تحت قدميه , فقال: « يا أبا بكر , ما ظنك باثنين , الله ثالثهما».
فلما كان النبي _صلى الله عليه وسلم_ متوكلا على الله واثقا بنصره ووعده، أورثه ذلك طمأنينة وسكينة جعلته لا يعبأ بترصد الأعداء مع قربهم منه، وهذا ما ذكره الله بقوله «إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا فأنزل الله سكينته عليه».
ومن ثمرات التوكل على الله في الدنيا: كفاية مكر الأعداء وكيدهم، ففي البخاري عن جابر بن عبد الله قال غزونا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- غزوة قبل نجد فأدركنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فى وادٍ كثير العضاه، فنزل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- تحت شجرة، فعلق سيفه بغصن من أغصانها، - قال - وتفرق الناس فى الوادي يستظلون بالشجر - قال - فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: « إن رجلا أتاني وأنا نائم فأخذ السيف فاستيقظت وهو قائم على رأسي فلم أشعر إلا والسيف صلتا فى يده فقال لي من يمنعك منى قال قلت الله. ثم قال فى الثانية من يمنعك منى قال قلت الله قال فشام السيف فها هو ذا جالس ». ثم لم يعرض له رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.
قوله: فشام السيف، المراد أغمده وهذه الكلمة من الأضداد يقال شامه إذا استله وشامه إذا أغمده قاله الخطابي.
وفي البخاري عن ابن عباس {حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} قالها إبراهيم عليه السلام حين ألقي في النار، وقالها محمد صلى الله عليه وسلم حين قالوا {إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ}. آل عمران:173.
ومن ثمرات التوكل في الدنيا: طرد الحيرة والتردد، وإذهاب أوهام الطيرة، فعن عبد الله بن مسعود عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال «الطِّيَرة شرك الطِّيَرة شرك ». ثلاثا « وما منا إلا ولكن الله يذهبه بالتوكل ».
ومعنى قوله « وما منا إلا ». أي وما منا إلا ويعتريه التطير، ويسبق إلى قلبه الكراهية فيه.
ومن ثمرات التوكل الوصول إلى الرزق بسهولة ويسر، كما في الترمذي عن عمر -رضي الله عنه- مرفوعا: «لو أنكم تتوكلون على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خِمِاصاً وتروح بِطَاناً». خماصًا: جياعًا، بطانًا: مُمتلئات البطون.
وأما ثمرة التوكل في الآخرة فهي الفوز بدخول الجنة، كما في الصحيحين عن عمران بن الحصين، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « يدخل الجنة من أمتي سبعون ألفا بغير حساب، لا يكتوون ، ولا يسترقون، ولا يتطيرون، وعلى ربهم يتوكلون».
وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «يدخل الجنة أقوامٌ أفئدتُهم مثلُ أفئدة الطير».
قال المناوي: كقلوب الطير في التوكل، تغدو خماصا وتروح بطانا.
أعمال تنقص التوكل:
جاء في الأحاديث بيان أعمال تخدش في التوكل، كطلب الرقية، والكي بالنار، كما روى البيهقي عن عَقَار بن المغيرة بن شعبة عن أبيه أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال «من اسْتَرْقى أو اكْتَوَى لم يتوكل ». استرقى: طلب الرقية من غيره، اكتوى: طلب من غيره الكي بالنار، لما فيهما من ضعف كمال الاعتماد على الله، وإذلال النفس للغير.
وفي الصحيحين عن عمران بن الحصين، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « يدخل الجنة من أمتي سبعون ألفا بغير حساب، لا يكتوون ، ولا يسترقون، ولا يتطيرون، وعلى ربهم يتوكلون»، فقام عُكَاشة بن مِحْصَن فقال: يا رسول الله ، ادع الله أن يجعلني منهم ، فقال: «اللهم اجعله منهم»، فقام آخر فقال: يا رسول الله ادع الله أن يجعلني منهم، فقال: «قد سبقك بها عكاشة».
الجمع بين أحاديث الباب:
قد يعارض هذه الأحاديثَ أحاديثُ أخرى كما في صحيح مسلم عن جابر بن عبد الله يقول: لدغت رجلاً منا عقربٌ ونحن جلوس مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال رجل: يا رسول الله أرقى قال: «من استطاع منكم أن ينفع أخاه فليفعل».
ويوجه هذا الحديث على أنه حث للراقي على رقية أخيه ونفعه، والحديث السابق إنما هو في طلب الرقية، وعليه فلا تعارض بينه وبين الحديث السابق.
وما روى ابن ماجة قالت أسماء: يا رسول الله إن بني جعفر تصيبهم العين أفأسترقي لهم؟ قال «نعم، فلو كان شيء سابق القدر لسبقته العين».
وفي البخاري عن أم سلمة -رضي الله عنها- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- رأى في بيتها جاريةً في وجهها سَفْعَة فقال : «استرقوا لها فإن بها النَّظْرة».
قولها: سَفْعَة قال ابن حجر: بفتح المهملة ويجوز ضمها وسكون الفاء بعدها عين مهملة، وهو السواد في الوجه، وقيل حمرة، وحاصلها أن بوجهها موضعا على غير لونه الأصلي.
ويوجه هذان الحديثان على طلب الرقية للغير، فلا يدخل في حديث «ولا يسترقون»؛ لأن طلب الرقية للغير لا تنافي كمال التوكل.
وأما الحديث الذي رواه ابن ماجة عن أبي سعيد، أن جبرائيل، أتى النبي -صلى الله عليه وسلم-، فقال: يا محمد اشتكيت؟ قال: «نعم» ، قال: «بسم الله أرقيك، من كل شيء يؤذيك، من شر كل نفس أو عين، أو حاسد الله يشفيك، بسم الله أرقيك».
فليس فيه أن النبي -صلى الله عليه وسلم- طلب الرقية، وإنما بادره جبريل بالرقية من غير طلب منه، وبهذا لا يدخل في قوله «ولا يسترقون».
ووجه الجمع بين هذه الأحاديث ما نقله البيهقي في السنن عن الإمام أحمد أنه قال: يشبه أن يكون هذا والله أعلم ترغيبا في التوكل على الله عز وجل، وقطع القلوب عن الأسباب التي كانوا في الجاهلية يرجون منها الشفاء، دون من جعلها أسبابا لها، فإذا كان المسلم متوكلا على الله عز وجل بقلبه لا يرجو الشفاء إلا منه ثم استعمل شيئا من هذه الأسباب وهو يعتقد أن الله تعالى جعله سببا للشفاء ، وأنه لم يصنع فيه الشفاء لم يصنع السبب شيئا ، لم يكن به بأس.
الأحاديث الواردة في بيان أن الأخذ بالأسباب لا ينافي التوكل:
لا تنافي بين أحاديث التوكل وأحاديث الأخذ بالأسباب، وقد بين النبي -صلى الله عليه وسلم- أن التوكل لا ينافي الأخذ بالأسباب الشرعية في عدة أحاديث منها:
ما روى البيهقي في الشُّعَب عن جعفر بن عمرو بن أمية، عن عمرو بن أمية، قال: قلت: يا رسول الله، أُرْسِلُ ناقتي وأَتَوكَّل ؟ قال: «اعقلْها وتوكَّلْ ».
وفي السنن عن حكيم بن حزام أنه قيل له: يا رسول الله أرأيت أدوية نتداوى بها، ورُقَىً نسترقيها، وتُقَاةً نَتَّقيها، هل تَرُدُّ من قدر الله شيئا؟ فقال: «هي من قدر الله».
وفي البخاري عن ابن عباس قال: كان أهل اليمن يحجون ، ولا يتزودون ويقولون نحن المتوكلون، فإذا قدموا مكة سألوا الناس، فأنزل الله تعالى : {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى} البقرة:197.
ومن خلال الأحاديث الثلاثة السابقة يتبين أن التوكل على الله لا يتعارض مع الأخذ بالسبب، بل إن الإعراض عن الأسباب نقص في العقل والدين، وإنما المحذور هو التفات القلب إلى الأسباب وتعلقه بها، مما يخدش في تمام التوكل.
أدعية نبوية فيها معاني التوكل:
في السنة علَّمنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أدعية تفيض بمعاني التوكل والاعتماد على الله، وتفويض الأمور كلها إليه، كما في الصحيحين عن أبي عمارة البراء بن عازب -رضي الله عنهما-، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «يا فلان، إذا أويت إلى فراشك، فقل: اللهم أسلمت نفسي إليك، ووجهت وجهي إليك، وفوضت أمري إليك، وألجأت ظهري إليك رغبة ورهبة إليك، لا ملجأ ولا منجا منك إلا إليك، آمنت بكتابك الذي أنزلت؛ ونبيك الذي أرسلت. فإن مت من ليلتك مت على الفطرة، وإن أصبحت أصبت خيرا» . متفق عليه
وفي دعاء الخروج من البيت روى الترمذي عن أنس بن مالك قال : قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- «من قال -يعني إذا خرج من بيته- بسم الله توكلت على الله لا حول ولا قوة إلا بالله يقال له كفيت ووقيت وتنحى عنه الشيطان».
وفي الصحيحين عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم- كان يقول: «اللهم لك أسلمت، وبك آمنت، وعليك توكلت، وإليك أنبت، وبك خاصمت، اللهم إني أعوذ بعزتك لا إله إلا أنت أن تضلني، أنت الحي الذي لا يموت، والجن والإنس يموتون».
وفي صحيح مسلم عن ابن عباس أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان يقول إذا قام إلى الصلاة من جوف الليل « اللهم لك الحمد أنت نور السموات والأرض، ولك الحمد أنت قيام السموات والأرض، ولك الحمد أنت رب السموات والأرض ومن فيهن، أنت الحق، ووعدك الحق، وقولك الحق، ولقاؤك حق، والجنة حق، والنار حق، والساعة حق، اللهم لك أسلمت، وبك آمنت، وعليك توكلت، وإليك أنبت، وبك خاصمت، وإليك حاكمت، فاغفر لى ما قدمت وأخرت وأسررت وأعلنت، أنت إلهى لا إله إلا أنت ».