ما ينافي الصيام ويناقضه، ويخالفه ويعارضه على نحوين:
أحدهما: مادي، واقع في نطاق الحِس، والثاني: معنوي، عائد على الروح والنفس؛ فأما الضَرب الأول فأن يصيب الصائم مما يعود إلى البطن والفرج في وقت مخصوص من طلوع الفجر إلى غروب الشمس، وذلك كمثل الأكل، والشرب، والجماع، وهذا هو صيام العاميِّ الذي لا يفقه من الصوم إلا هذا، وأنه لا غاية للصوم وراءه، فإذا ما أصاب الصائم شيئاً من ذلك فقد انتقض صومه وبطل، وصار مطالباً بإعادة صوم اليوم الذي نقض صومه فيه.
وهذا الصوم إنما هو في الحقيقة وسيلة للضَّرْب الثاني؛ إذ المقصود منه أن يتدرب الصائم على حكم نفسه، وكبح جماحها، ليمنعها مما يُدَسِّيها، ويدنسها، ويرديها، وهذا من الضرْب الثاني، وهو المعنوي، الذي يعود إلى النفس، وهو عماد التقوى، ولُب الصيام الذي هو منه الغاية الأولى، وهو اجتناب خِلال تدنس النفس، وذلك كمثل الكذب، وقول الزور، والعدوان على الناس في دمائهم، وأموالهم، وأعراضهم، وقد جاء في الحديث الصحيح (من لم يدع قول الزور والعمل به، فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه) رواه البخاري، وفي الحديث ما يدل على أن المقصود من الصوم إنما هو تهذيب النفس، ومنعها من مساوئ الخِلال؛ إذ أن الإمساك عن المفطرات، وترك الطعام والشراب لم يفرضه الله سبحانه لمنفعة وحاجة به سبحانه إليه، وإنما ذلك لغاية للعبد، وهي تهذيب نفسه، والابتعاد عما يشينه.
وإن هذا الضرب من المفطرات، وهو حفظ اللسان من الغيبة والنميمة وأذى المسلمين أعظم خطراً، وأفدح ضرراً من القسم الأول؛ إذ كان هذا القسم يحبط الصوم، ويهدمه، ويذهب الغاية منه، وهو الثواب عند الله، وهو وإن كان لا ينقض الصوم مادة، ولا يوجب الإعادة، إلا أن المعول عليه هو حصول التقوى، وبلوغ الغاية من النفس، وهو مما لا يدرك ولا يتوصل إليه مع إتيان الصائم الكذب والزور والغيبة والنميمة والطعن في أعراض الناس، وما شاكل ذلك من المحرمات، وإذا كان المقصود من الصوم إنما هو تذليل النفس، وإخضاعها لحكم الدين والأدب والعقل، فإن مما يجري على هذه القاعدة أن يخفض جناحه للمؤمنين، وأن يتجاوز عن مسيئهم، ولا يقابل السيئة بالسيئة، فإذا اعتدى عليه أخوه المؤمن فلا يقابله عدواناً بعدوان مثله، وإذا سبه فلا يسبه، وفي هذا جاء الحديث (إذا كان يوم صوم أحدكم فلا يَرْفُثْ ولا يَصْخَبْ، فإن سابَّه أحدٌ، أو قاتله، فليقل: إني امرؤ صائم) متفق عليه.
ففي هذا الحديث أن على الصائم أن لا يجيب من سبه وشتمه، وهذا يتضمن التجاوز والسماح، وترك مقابلة الشر بالشر، والعدوان بالعدوان؛ إذ أنه إذا سب الإنسانُ إنساناً آخر فقد اعتدى عليه، وفي هذا الحديث الوصية بأن لا يرد عليه بالشتم وذلك من حقه، وهذا واضح في ترك مقابلة العدوان بالعدوان، ومعنى: (وليقل: إن صائم) إنه ليس لي أن أجيب على السبِّ بمثله، وأن أقاتل من قاتلني، وهو يتضمن تذكير الصائم المعتدي أنه مخطئ، وناقض لصومه بسبه له، ومقاتلته إياه.
ومن كلام حكماء الإسلام في هذا المعنى، قول جابر رضي الله عنه: (إذا صمت فليصم سمعك، وبصرك، ولسانك عن الكذب، والمحارم، ودع أذى الخادم، وليكن عليك وقار وسكينة يوم صيامك، ولا تجعل يوم فطرك وصومك سواء) رواه البيهقي. وهذا كما قال الشاعر:
إذا لم يكن في السمع مني تصون وفي بصري غض وفي منطقي صمت
فحظي إذن من صومي الجوع والظما فإن قلت: إني صمتُ يومي فما صمت َ
وقد قيل في صوم الخواص: من يصوم في الدنيا عما سوى الله، فيحفظ الرأس وما حوى، ويحفظ البطن وما وعى، ويذكر الموت والبلى، ويريد الآخرة، فيترك زينة الدنيا، فهذا عيد فطره يوم لقاء ربه، وفرحته برؤيته.
والعارفون صومهم أن يحفظوا -بالإضافة إلى كل ما تقدم- قلوبهم عن كل ما سوى الله، وألا يكون فيها حظ لسواه، وهنالك طبقة العوام الذين لا يعلمون من الصوم إلا الإمساك عن الطعام والشراب، وطبقتا العوام والخواص من الصائمين -فيما نرى- كثيرتان في هذا الزمان، أما طبقة العارفين فهيهات، وقليل إن كان.
- الكاتب:
إسلام ويب - التصنيف:
قطوف رمضانية