اندهشت عندما دخلت الصغيرة ذات السنوات الخمسة، وهى ترتدى «الهاف ستومك»، وتضع «المانيكير»، و«الروج»، وترتدى حذاءً ذا كعب عالٍ، وقصة شعرها مثل الراقصة ( فلانة).
تعجبت لأنى لم أجد قريبتى الجميلة كما كنت أتخيل، فلا شريطة بشعرها، ولا فستان مزركش جميل، ولا حذاء بفيونكة؛ نظرت إليها ولم أستطع أن آخذها فى حضنى وأقبلها وألاعبها، فأمامى آنسة لا أستطيع إلا أن أسلم عليها بشياكة، وأقول الكلمة التى قرأت فى عينيها أنها تريدها: «إيه الجمال والإغراء دا كله».
وعندما جلست سألتها: ماذا تحفظ من الحضانة، فبدأت بنعومة تغنى لى أغانى الفيديو كليب، ولم تتحرج من أن تتبع ذلك برقصات وإشارات ، وعندما قلت لها: إن هذه الأغانى عيب. قالت لى: أحفظ غيرها؛ فغنت «آه يا قلبى»، «نارى نارين».....
فقلت لها سلامة قلبك الصغير، آه يا قلبى أنا مما أراه.. ما الذى حدث لهذه الصغيرة ولجيلها كله ؟
لماذا هجرت الطفولة البريئة، وسعت لتكون أنثى تلبس العارى، وتغنى وترقص بأغانى «الحب والهيام».
الإعلام واغتيال براءة الطفولة
تتهم الدكتورة عالية الكردى - المتخصصة فى شئون المرأة والطفل - الإعلام بأنه السبب فى القضاء على براءة الطفولة عند الطفلة، فنجد أن برامج الأطفال أقل مساحة؛ مقارنة بالمساحة المخصصة للأعمال الأخرى، حتى القنوات المتخصصة للأطفال لا تعكس مرحلة الطفولة، وبعيدة جدًا عن حياة الطفل، فهى عبارة عن أوهام خيالية لا يمكن أن يحققها الطفل، أما برامج الشباب فسهل تقليدها والتعايش معها.
وأرجعت أيضًا هذه الظاهرة إلى عامل آخر، وهو تراجع الوقت الذى تحتك فيه الأم بأطفالها؛ فالطفل لا يعيش الطفولة جيدًا؛ لأن معظم الأمهات عاملات، فالطفل لا يأخذ حقه فى التربية والرعاية، إضافة إلى أن كل المؤثرات داخل الأسرة وخارجها لا تسير بشكل طبيعى.
كذلك المجتمع أخفق فى تقديم القدوة للأطفال؛ لأن التقليد والمحاكاة جزء طبيعى من حياة الطفل، وهناك تراجع لدور المسجد كمؤسسة تربوية فعالة، وقصور فى تقديم الثقافة الإسلامية الصحيحة.
ليس الإعلام وحده
أما الدكتورة فؤادة البكرى - الأستاذة بقسم الإعلام بكلية الآداب جامعة حلوان - فتقدم رأيًا مختلفًا، إذ ترى أن هذه الظاهرة ليست مسئولية الإعلام وحده، إنما هى مسئولية كل المحيطين بالطفل مثل الأسرة والمدرسة ومؤسسات التنشئة المختلفة.
فيجب على مؤسسات التربية أن تقوم بدورها، وخاصة الأسرة عليها أن تحتضن أطفالها، وتحرص عليهم ولا تتركهم فريسة للإعلام، وتختار لهم المفيد، وتحفظهم من السيئ، وتساعد أطفالها على أن يعيشوا سنهم وطفولتهم؛ لأنهم إن لم يعيشوا طفولتهم بصورة طبيعية، فلن يعيشوا أى مرحلة أخرى بصورة سوية، وعلى الأم أن تتحكم فى نوعية ما يراه أطفالها، وأن تُرشِّد ساعات الإرسال التليفزيونى.
وتؤكد على أنه بجانب دور الأسرة؛ هناك مسئولية كبيرة تقع على عاتق المدرسة والمعلمين؛ فالمعلم يجب أن يكون قدوة يقتدي بها الطفل، ويجب أن يعي دوره جيدًا، ويوجه الأطفال فى مرحلة الطفولة؛ لأن هناك مرحلة من المراحل التى يمر بها الطفل يقتدى تلقائيًا بمعلمه، فالطفل يكتسب القيم من الأسرة والمعلمين، فيجب أن لا نهمل دور المؤسسات الاجتماعية المحيطة بالطفل (التى تؤثر فيه ويتأثر بها)، ونلقى اللوم على الإعلام وحده.
القدوة والتربية
ويؤكد الدكتور نبيل السمالوطى - أستاذ علم الاجتماع - أن هناك اتجاهًا ودافعًا غريزيًا عند الأطفال للمحاكاة ومحاولة تقليد الكبار فى أقوالهم وسلوكياتهم المختلفة، وهذا أمر طبيعى.
ولذلك؛ فإن عملية التربية لا تعتمد على المنطق والحوار بقدر ما تعتمد على القدوة، فإذا كانت القدوة صالحة كانت التنشئة صالحة، وإذا كانت القدوة فاسدة كانت التنشئة فاسدة.
فيجب أن لا نلوم الطفل ونلوم المخالطين له، فعلى الآباء والأمهات إذا وجدوا ابنتهم تقلد النساء اللائى يرتدين ملابس خليعة، ويضعن الماكياج الصارخ وعندهن انفلات وإباحية، فلا يلومون إلا أنفسهم؛ لأنهم لم يشرفوا إشرافًا جيدًا على نوعية ما يشاهده أبناؤهم وبناتهم، ولم يمارسوا التوجيه والنقد الواجب عند مشاهدة هذه المناظر.
يجب على الأم أن تكوّن وتنمى الوازع الدينى والأخلاقى داخل أبنائها وبناتها، فيكون المعيار أن نرضى الله (عز وجل)، وأن نعيش بقيمنا وأخلاقنا وثقافتنا نحن.
فإذا تربى هذا الوازع الدينى والأخلاقى داخلهم فلا نخاف عليهم بعد أن يتخطوا مرحلة الطفولة، ويصبحوا كبارًا؛ لأنهم قد أخذوا الحصانة والمناعة الأخلاقية والثقافية والدينية الكافية.
ولهذا يجب الحذر من كل المخالطين للطفل الذين يجب عليهم أن يراعوا السلوك القويم والصدق فى القول والفعل والقيم المتعامل بها يوميًا.
كان قديمًا يوجه هذا الكلام للمقربين للطفل والمحيطين به، أما الآن فقد اتسعت دائرة التأثير، وأصبحت هناك دائرة التليفزيون والسينما والشارع والحى والمدرسة، وكل هذه الدوائر أصبحت مؤثرة، ولا يمكن لنا أن نضبطها، فهناك دوائر منفلتة، وهناك دوائر ملتزمة، وهناك قنوات صالحة وأخرى فاسدة، ومن الجيران من هو صالح، ومنهم من هو فاسد، والأطفال يقلدون سلوكيات الكبار.
ثقافة الصورة
يرى الدكتور محسن خضر - أستاذ أصول التربية بجامعة عين شمس - أن تقليد الأطفال للكبار ظاهرة طبيعية لا تدعو للقلق، فهى سمة من سمات النمو فى المراحل المختلفة، لكن ما يدعو للقلق هو هذا الطغيان لثقافة الصورة على شخصية أطفالنا ومراهقينا، فلم يعد المثل الأعلى للطفلة الأم التى معها فى المنزل، والتى كانت سابقًا تحاول تقليد دورها فى المطبخ، وفى رعاية الأطفال، فتقوم بنفس الدور مع عروستها، ولم يعد المثل المعلمة أو الأخوات الكبار، بل أصبحت القدوة والمثل الأعلى نماذج غير سوية تفرضها ثقافة الصورة، وتروج لها ليل نهار.
فالتليفزيون المحلى والفضائيات تقدم أسوأ نماذج القدوة لأطفالنا ، وهي نماذج ممسوخة ومصنوعة يعدها الإعلام التجارى، ويقدمها ليربح ويكتسح، وهى نماذج تستثير الإعجاب من قبل الجنسين بالمعنى الجنسى عند الذكور، والمعنى الأنثوى عند الإناث.
ويستغل هذا الإعلام عدم وجود القدوة والمثل الأعلى؛ فيقدم الابتذال والبطون المكشوفة والأجسام المهتزةوالميوعة، والسباق المثير بين الفريسة والصياد.
هذا يحدث فى ظل غياب نماذج القدوة فى المنزل والمدرسة والإعلام والانحطاط الأخلاقى والقيمى، وعدم وجود الهدف المشترك الذى يجمع المجتمع بكل فئاته، وبالتالى تتولد مساحة كبيرة من الفراغ تملؤها نانسى وشيرين وأبطال البلاى ستيشن والسينما الأمريكية وأرجوزات السينما الشبابية.
متى يستعيد المجتمع رشده !!
وينصح الدكتور محسن خضر بضرورة وجود المشروع الاجتماعى الكبير؛ لأن القضية هى غياب هذا المشروع، وغياب الأبطال الحقيقيين، فلابد من تقديم نماذج قدوة حقيقية بعيدًا عن المهللين والمهرجين والباحثين عن المادة فقط؛ بصرف النظر عن القيم أو الانتماء، فلابد أن يستعيد المجتمع رشده وعقله وأهدافه الكبرى، فالأسرة وحدها لن تستطيع أن تقوم بدورها بمعزل من المجتمع.
أما الدكتورة عالية فترجع لتؤكد على دور الأسرة، وتطالب الأم بأن تجلس وقتًا أكبر مع أطفالها، وأن يعود دور المسجد فى التربية، كما كان قبل نصف قرن.
وتضيف: لابد من زيادة مساحة الإعلام الموجه للطفل، مع انتقاء الجيد وإنتاج كارتون عربى للأطفال، ويمثل واقعنا ومجتمعنا العربى المسلم.
ــــــــــــــــ
مركز الإعلام العربي