ذكر عبد بن حميد في مسنده، والطبري في تفسيره، وأهل التفسير عند سورة الإسراء: أن أشراف قريش وعظماءها اجتمعوا عند الكعبة يوماً بعد غروب الشمس فقال بعضهم لبعض: ابعثوا إلى محمد فكلموه وخاصموه حتى تعذروا فيه، فبعثوا إليه: إن أشراف قومك قد اجتمعوا لك ليكلموك، فجاءهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يظن أنه قد بدا لهم في أمره بداء، وكان عليهم حريصًا يحب رشدهم ويعز عليه عنتهم، حتى جلس إليهم، فقالوا: يامحمد، إنا قد بعثنا إليك لنعذر فيك، وإنا والله ما نعلم رجلاً من العرب أدخل على قومه ما أدخلت على قومك، لقد شتمت الآباء وعبت الدين وسفهت الأحلام، وشتمت الآلهة، وفرقت الجماعة، فما بقي من قبيح إلا وقد جئته فيما بيننا وبينك، فإن كنت قد جئت بهذا الحديث تطلب به مالاً جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالاً، وإن كنت تريد ملكًا ملكناك علينا، وإن كان هذا الذي يأتيك بما يأتيك رأيا تراه قد غلب عليك (وكانوا يسمون التابع من الجن رأيًّا) بذلنا لك أموالنا في طلب رآه حتى نبرئك منه أو نعذر فيك.
فقال صلى الله عليه وسلم: ما بي ما تقولون، ما جئتكم أطلب أموالكم، ولا الملك عليكم، ولكن الله بعثني إليكم رسولاً، وأنزل عليَّ كتابًا، وأمرني أن أكون لكم بشيرًا ونذيرًا، فبلغتكم رسالات ربي ونصحت لكم، فإن تقبلوا مني ما جئتكم به فهو حظكم في الدنيا والآخرة، وإن تردوه عليَّ أصبر حتى يحكم الله بيني وبينكم.
وقد تكرر هذا العرض أو شبهه عندما ذهب إليه عتبة ابن ربيعة مبعوثًا من قريش، ورد عليه بأول سورة فصلت.
لقد كانت فرصة العمر التي فاتت من أجل الإسراع بإقامة دولة الإسلام وتمكين دين الله في الأرض، لقد كان يمكن لرسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقبل الملك والرئاسة ومن موقع القيادة يقيم الأمة ويبلغ الدين ويفعل ما يريد.. أليس كذلك؟!
فلماذا لم يقبل النبي صلى الله عليه وسلم هذا العرض الفائق وهذا الكرم الزائد؟ ولماذا فوت هذه الفرصة السانحة؟ لماذا ترك عرض صناديد قريش وأشرافها، وذهب يبحث عن بلال وعمار وزيد بن حارثة، ويفتش في الخبايا والزوايا عن مؤمن يؤمن به ويتبعه ويقبل دين الله الذي أرسل به؟
ومن هنا يعلم كل فرد في هذه الأمة أهمية التربية، والتي يأتي على رأسها التربية العقدية والتربية الإيمانية، إذ هي الركيزة الأساسية في حظيرة الإيمان، وقنطرة الإسلام، وبدونها لا ينهض العبد بمسؤولية ولا يتصف بأمانة، ولا يعرف لرعاية، ولا يعمل لمثل أعلى أو هدف أو غاية. بل بدونها يعيش عيش البهائم لا هم له إلا أن يسد جوعته ويشبع غريزته، وهل هذه إلا معيشة الأنعام: (وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ)[محمد:12].
وهذه حال كل من أشرك مع الله سواه أو عبد معه غيره أيًّا كان هذا الغير فهو أضل من الأنعام، فهماً وأقلُّ منهم عقلاً، قال الله تعالى عن أهل النار: (وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ) [الملك:10].
ثم توحيد الله تعالى بأسمائه وصفاته، وأنه موصوف بكل صفات الكمال، ومنعوت بكل نعوت الجلال، لا يشبه أحدًا من خلقه ولا يشبهه أحد من خلقه، إذ ليس كمثله شيء وهو السميع البصير، وهو ما يسمى بتوحيد الأسماء والصفات.
ثم قبول كل ما جاء به رسله وخاتمهم محمد صلى الله عليه وسلم، واتباعه دون غيره، وهذا معنى الشهادة التي هي عنوان الإسلام وأصل التوحيد: لا إله إلا الله، محمد رسول الله.
لا معبود بحق إلا الله، ولا متبوع بحق إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم.
روى الإمام الدارمي في سننه عن مجاهد قال: حدثني مولاي أن أهله بعثوا معه بقدح فيه زبد ولبن إلى آلهتهم، قال: فمنعني أن آكل الزبد لمخافتها، قال: فجاء كلب فأكل الزبد وشرب اللبن ثم بال على الصنم وهو أساف ونائلة.
وقال هارون بن معاوية: كان الرجل في الجاهلية إذا سافر يحمل معه أربعة أحجار، ثلاثة لقدره، والرابع يعبده، ويربي كلبه ويقتل ولده.
وعن أبي الرجاء قال: كنا في الجاهلية إذا أصبنا حجرًا حسنا عبدناه، وإن لم نصب حجرًا جمعنا كثبة من رمل ثم جئنا بالناقة الصفي (كثيرة اللبن) فنفاج عليها (نفرج بين رجليها) فنحلبها على الكثبة حتى نرويها ثم نعبد تلك الكثبة ما أقمنا بذلك المكان.(رواه الدارمي)
لقد ظل رسول الله سنوات يدعوهم ويربيهم ما يدع فرصة إلا ويرسخ في أذهانهم أن الأمر كله لله والكون كله لله، من خلال الأقوال والأفعال والمواقف.
فقد روى البخاري ومسلم عن زيد بن خالد الجهني قال: صلى لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الصبح بالحديبية، على إثر سماء كانت من الليلة، فلما انصرف النبي صلى الله عليه وسلم أقبل على الناس، فقال : هل تدرون ماذا قال ربكم. قالوا : الله ورسوله أعلم، قال : أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر، فأما من قال : مطرنا بفضل الله ورحمته، فذلك مؤمن بي كافر بالكواكب، وأما من قال : بنوء كذا وكذا، فذلك كافر بي مؤمن بالكواكب.
فانظر كيف أن أبا بكر لم يستطع أن يتحمل سماع تنقص الرب تعالى حتى تفاعل لها وغضب لربه تعالى وانظر كم يسب الله علانية في زماننا ولا يتحرك لنا ساكن.
نحن في أشد الحاجة والله لأن نتربى على العقيدة، ونربي عليها أبناءنا؛ لأنهم العدة والمستقبل وعلى حسب تنشئتهم ستكون حال الأمة.