بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه أما بعد:
فيكثر الحديث عن القوة الكامنة في النفس، وعن الشرارة التي تفجر هذه الطاقات، ويُثنى على بعض الأشخاص بأن لديهم القدرة على تفجير الطاقات لدى الجماهير والشعوب. وقد لوحظ في حياة الأفراد والدول والجماعات طفرات في السلوك والتصرف نتيجة ظروف وحوادث تستلفت الأنظار، فمثلا مع مجيئ رمضان تتغير صورة البلاد والعباد؛ فأكثر الناس يحرصون على تلاوة القرآن وسماعه، ويصومون النهار، ويقومون الليل، وتلمس الحرص على النفقة والسؤال عن الحلال والحرام، وتجنب الكثير من المعاصى والذنوب، فهذا يغض بصره عن النساء والأجنبيات، والمتبرجة تعود للحجاب الشرعى خشية أن يخدش الصيام، وتارك الصلاة يواظب على الصلاة، حالة شفافية لا تخطؤها العين في رمضان.. وهؤلاء الأشخاص لو قيل لهم في غير رمضان: صوموا النهار وقوموا الليل وتعاهدوا المصحف لقالوا: لا نستطيع ولا نقدر، وكأن هذا الشهر المبارك هو الذي أطلق هذه الطاقات الكامنة، فالقدرة والقوة موجودة في النفس ولكنها كانت بحاجة لشرارة تفجرها.
وقد وردت الأخبار المتواترة تفيد ظهور المهدي في آخر الزمان وهو من علامات الساعة العشر الكبرى وأنه يصلحه الله في ليلة، يملأ الأرض عدلا كما ملئت ظلما وجورا، نقلة كبيرة تحدث لمحمد بن عبد الله - مهدى هذه الأمة- بين عشية وضحاها.. فالشخص هو هو ينصلح حاله في ليلة فيملأ الأرض عدلا، وربنا قدير يحيى العظام وهى رميم ويكور الليل على النهار ويكور النهارعلى الليل.
لقد دبت المعاني الإيمانية في نفوس سحرة فرعون فتحولوا من طلاب للدنيا يلهثون وراء الحطام الفاني إلى طلاب للآخرة يتهددهم فرعون: لأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف ولأصلبنكم في جذوع النخل، فيقولون له:"اقض ما أنت قاض إنما تقضي هذه الحياة الدنيا"، فخروا لله ساجدين وقالوا: "آمنا برب العالمين". تغير عظيم وإيمان عمره لحظات صنع الأعاجيب.
ويوم بدر خرج الصحابة الأفاضل طلبا للعير فكان النفير، قال تعالى :(ولو تواعدتم لاختلفتم في الميعاد ولكن ليقضي الله أمرا كان مفعولا) كان عدد المشركين يزيد على ثلاثة أضعاف عدد المسلمين، وقد خرج المشركون في خيلهم وخيلائهم يحاربون الله ورسوله ويواجهون المسلمين العزَّل ـ تقريباـ إلا من سلاح الإيمان – وهم يومئذ في قلة عدد وعتاد، وعلى الرغم من ذلك انتصروا على عدو الله وعدوهم، قال تعالى: (ولقد نصركم الله ببدر وأنتم اذلة فاتقوا الله لعلكم تشكرون)، وقال: (وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) (لأنفال:26).. وكانت المشاهد الإيمانية التي انطلقت شرارتها في هذه المعركة الفاصلة على الرغم من مفاجأة الحدث واستعداد المشركين للقتال واستئصال شأفة المسلمين.
ويحكى أن الخنساء لما مات أخوها صخر رثته وأنشدته معلقات الشعر الباكية وكانت يومئذ شابة، ثم لما أسلمت قتل أولادها الأربعة يوم القادسية وعلمت بمصرعهم فلم تزد على قولها: الحمد لله الذي شرفني بقتلهم وأرجو أن يجمعني بهم في دار كرامته.
إنه الايمان الذي يصنع الأعاجيب ويحول الحياة إلى خيرات وبركات وثبات في مواجهة المحن، واستعلاء كريم لا تقوى زخارف الدنيا وزينتها على زحزحته، ولا يخفى عليك مدى محبة الأم لأولادها، الأمر الذي لا ينهض أمامه محبة الأخ، ثم هي كان قد كبر سنها ورق عظمها حين فجعت في أولادها الأربعة.. قوة وطاقة كامنة في النفوس لا يمكن حسابها بالمعانى المادية ولا يصلح تفسيرها بقوة العضلات والأيادي.
لقد استولى القرامطة على الحجر الأسود وانتزعوه من مكانه أكثر من اثنتين وعشرين سنة، ثم أعيد مكانه مرة ثانية، واستولى التتار على بغداد عاصمة الخلافة ولم يستطع الناس الخروج للمساجد أربعين يوما، وكانت الجبال من الجماجم والضحايا وأشلاء المسلمين لا يتصور معها كيف ينتهي هذا البلاء والكرب، وعلى يد من يتم الخلاص من هذه الفتنة، وقيض الله لهذه الامة أمثال قطز وبيبرس وتم النصر في عين جالوت وخرج شيخ الإسلام ابن تيمية بنفسه لقتال التتار وكان يستحث الأمراء والخلق على الجهاد في سبيل الله.
ولما داهم الصليبيون البلاد والعباد واستولوا على بيت المقدس، ظهرت معالم النخوة والغيرة الإيمانية على صلاح الدين، وكان قد تولى زمام مصر، فقال لوزيره ابن شداد: أما أسرُّ لك حديثا؟ إني أتمنى إن فتح الله علي بيت المقدس أن أركب البحر أقاتل كل من كفر بالله حتى يظهر دين الله أو أهلك دونه". وقد نصره الله على الصلبيين في موقعة حطين واسترد بيت المقدس بعد أن احتله الصليبيون أكثر من تسعين سنة.
والناظر في الصحوة الإسلامية في الآونة الأخيرة، وهذه الصحوة التي نشاهدها في امتلاء المساجد بالمصلين وكثرة الحجاج والمعتمرين والحرص على ارتداء الحجاب الشرعي، وتعليم العلم الشرعي، والعودة لمثل ما كان النبى صلى الله عليه وسلم والصحابة الكرام، يحدث ذلك على مستوى الكبار والصغار والرجال والنساء، ولا يكاد يخلو بيت الآن من ملتزمين متدينين، هذه الصحوة التي أربكت الأعداء وأرهبت الكفار وكأنها لم تكن في الحسبان، فقد رأوا المارد يستيقظ، بعد أن ظنوا أن أمره قد انتهى إلى غير رجعة، فتيقنوا أنها أمةٌ ولادةٌ، لا يدرى أولها خير أم آخرها؟ شأنها كشأن المطر سرعان ما تتفجر فيها الطاقات والقوى الكامنة، ولذلك فكثرة المصائب والأحزان، وفجيعتنا في المسلمين هنا وهناك، وتسلط الأعداء على رقابنا لا يدعو ليأس ولا لقنوط: (إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون) فنحن نستبشر الخير، والفجر قادم بإذن الله، حتى وإن طال الظلام، وإن النصر مع الصبر، وإن الفرج مع الكرب، وإن مع العسر يسرًا. فألم المخاض تعقبه فرحة الولادة، ومقدمات الخير موجودة بكثرة في هذه الأمة، والمستقبل لدين الله بغلبته وظهوره على الأديان كلها، بذلك نطقت نصوص الشريعة، قال تعالى: (هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون)، وقد حدث ذلك وسيكون منه ما شاء الله أن يكون، فمن تعجب كيف يفتح بيت المقدس وتنصر الأمة على يهود وعلى الروم، من تعجب لورود النصوص بفتح القسطنطينية ورومية، قلنا له: الأمور على ما عند ربك، وأخبار الصادق المصدوق لابد أن تتحقق، ولا تغتر بواقع الأمة المؤلم أو بقوة أعدائها، فهذا الواقع سيزول ويتغير بإذن الله، فالأمة لديها طاقات كامنة هائلة، وفضل الله أعظم، فقد قضى سبحانه ألا تهلك الأمة بسنة عامة؛ لأنها أمة دعوة أنيط بها إبلاغ الحق إلى الخلق. والصدمات التي تتعرض لها قد تكون سبب يقظتها وعودتها لدين ربها: (ويؤمئذ يفرح المؤمنون بنصر الله ينصر من يشاء). وما يحدث للمهدي في آخر الزمان، وما يحدث للأمة في رمضان من تحول إيمانى يقرب لك ما نقول.
واجب الدعاة
والواجب علينا أن نغتنم مواسم الخيرات وكذلك أيام المحن في تفجير الطاقات الكامنة في النفس والأمة عن طريق الاستعانة بالله تعالى في تعلم العلم النافع ومتابعته بالعمل الصالح،والقيام بواجب الدعوة إلى الله والصبر على ذلك كله.
نحن لا نخلق الفرص وأيضا لا نضيعها، فإذا رأينا النفوس تهفو لطاعة ربها والأمة تخطو الخطوات الأولى في طريق العودة لدين الله في وقت تتنزل بها الشدائد والمحن، فلا أقل من أن نتواكب معها حتى تكون الصحوة مستبصرة بمواضع الأقدام ومعالم الطريق، تعرف التوحيد وما ينافيه من الشرك، والفرائض ما تصح به وما تبطل، والحلال والحرام والأمور التي تستصلح بها القلوب، كما تتعرف على الشبهات وطريقة دفعها عن النفس. وقد حكى لنا القرآن دعوة نبي الله يوسف – عليه السلام – لصاحبي السجن لما سألاه عن الرؤى لم يبادر بتعبيرها وقدم لهما بقوله: (يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ . مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إلا لِلَّهِ أَمَرَ أَلا تَعْبُدُوا إلا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) (يوسف:39 ، 40) في مواجهة طوفان التدمير:
لابد من ترسيخٍ لمعاني الإيمان واليقين في النفوس، والتركيز على مسائل العقيدة ودعوة التوحيد، فهي دعوة الأنبياء والمرسلين ومن تابعهم بإحسان إلى يوم الدين، وهي الدعوة الكفيلة بتفجير طاقات الخير والبركة في هذه الأمة واستعادة المجد والعز المفقود، وردّ البلاد والعباد إلى خالق الأرض والسماء رداً جميلا, لابد من مواجهة طوفان الهدم والتدمير، وعلى سبيل المثال لا الحصر:
4.7مليون زائر يدخلون أحد المواقع الإباحية كل اسبوع، 83.50 % من الصور المتداولة في المجموعات الإخبارية صور إباحية، 63 % من المراهقين الذين يرتادون صفحات ومواقع الدعارة لا يدري آباؤهم .
وهذه عينة من صور الهدم، ومن المعلوم أن الهدم سهل يسير والبناء صعب عسير، وما يحدث من إقبال الناس على دين ربهم لا يخضع لحسابات البشر، ومكر الأعداء إلى بوا؛ فتدبيرهم تدميرهم وكيدهم يرتد إلى نحورهم، والخير ينبت ويترعرع وسط عواصف الأهواء والإغراء، والأمة تولد من رحم المحنة، ومسيرة آلاف الأميال تبدأ بخطوة واحدة ، لابد من الوصول إلى جميع فئات المجتمع بالدعوة سواء كانوا رجالا أو نساءً، كبارًا أو صغارًا، والتركيز على كل القطاعات: الأطباء والمهندسين والمدرسين والموظفين والعمال والطلبة؛ فالأمة مستهدفة.
ولننتبه فإن البعض أصبح صورة منفرة للإسلام؛ يصد عن سبيل الله بفعله في الوقت الذي يدعوهم فيه بقوله، فلا بد من جهاد كبير: (والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين) ومن بطأ به عمله لم يسرع به نسبه، ولا يزال العبد يتأخر حتى يؤخره الله، ولا يجعل الله عبدًا سارع اليه كعبد أبطا عنه.
إن الطاقات والقوى الكامنة هائلة فلا بد من علو الهمة، فدعوتك دعوة عالمية، وأنت تتشرف بالانتساب لخير أمة أخرجت للناس، ونبيك صلى الله عليه وسلم هو سيد الأولين والآخرين، دعوتك هي دعوة الحق ، والمرجع والمآب إلى الله. والسلوك مرآة الفكر.. فكيف لا تنفجر الطاقات الكامنة وتكون الاندفاعه الإيمانية التي تبني ولا تهدم، وتصلح ولا تفسد، ولسان حالها ينطق: (وعجلت إليك رب لترضى)؟!.