جاء في جريدة الشرق الأوسط عدد الاثنين 20 ربيع الآخر 1420 هـ 2 أغسطس 1999 م الصفحة الأولى في عنوان بالخط العريض أن "بيل غيتس" (إمبراطور الكمبيوتر) يعتزم التبرع بـ 100 مليار (مائة ألف مليون) دولار للأعمال الخيرية.
والسبب كما جاء في طيّات الخبر (أنه أصيب بصدمة قاسية من جراء المناظر المروعة التي شاهدها أثناء زيارة للهند وجنوب أفريقيا؛ فقرر أن يبذل الجهود للمساعدة في تخليص العالم من الأمراض الخطيرة والقاتلة مثل الإيدز والملاريا من خلال المؤسسة الخيرية التي يرعاها والتي تحمل اسمه، بحيث يحتل المرتبة الأولى في قائمة المانحين من الأفراد في العالم). انتهى الخبر.
إنما جئت بهذا الخبر وصدرت به كلامي لأشعل الغيرة في قلوب أهل الإيمان، ولا أقول في قلوب أهل الثروات والمال، والعظة واضحة جلية: ثروة تعادل احتياطي العملة الأجنبية الموجود في كل بنوك بلدة عربية أو يزيد، يتبرع بها صاحبها - الكافر - لمؤسسة خيرية باسمه، شفقة على مرضى الإيدز والملاريا، فكيف بنا ونحن مسلمون، والبذل في سبيل الدين واسع، ولو كان بالقليل من المال.
وأبو بكر الصديق رضي الله عنه خرج من ماله كله، والعظة فيه أقوم، ولكن الناس إذا سمعوا من يستخدم فئة المليار في التبرعات تعجبوا، وإذا كان كافرا زاد العجب، وإلا فإن خروج أبي بكر من ماله كله أوقع أثرا في القلب، وقد قال في ذلك الموقف لما سأله الرسول صلى الله عليه وسلم: (ماذا تركت لأهلك يا أبا بكر؟) قال: تركـت لهم الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم .
ولعمري فإن هذا هو المال المبارك: ما أنفقه صاحبه في سبيل الله، ولو كان به خصاصة، لا يرجو من الناس جزاء ولا شكورا ولا رياء ولا سمعه ولا أن يكون هو صاحب المرتبة الأولى بين المانحين ولا أن تكون مؤسسته على رأس قائمة مؤسسات العالم الخيرية.. ولا .. ولا..، ولكن كما قال الله تعالى: {وما لأحد عنده من نعمة تجزى إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى}، ثم لا يتبع ما أنفق منا ولا أذى، أولئك {لهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون}.
إن استثمار المال في كل مجال دنيوي محفوف بمخاطر الإفلاس والسرقة وإتلاف الجوائح واختلاس الخونة وكساد السلع وإعراض المشتري ومنافسة السوق، أما التجارة واستثمار المال في الدعوة إلى الله ونصرة الدين فمن أضمن الاستثمارات، فأصحاب هذا المال {يرجون تجارة لن تبور} وأصحاب هذا الاستثمار هم الآمنون يوم الخوف الأكبر، ولنتعظ ببذل أبي بكر الصديق للدين، ولنعتبر بقول النبي صلى الله عليه وسلم: (ما نفعني مال قط إلا مال أبي بكر) قال أبو هريرة: فبكى أبو بكر، وقال: وهل نفعني الله إلا بك، وهل نفعني الله إلا بك، وهل نفعني الله إلا بك. رواه أحمد والترمذي وابن حبان وغيرهم.
والبذل الذاتي للدين سيظل هو المورد الأساسي الذي تنفق منه الدعوة، وقد تبتكر الدعوة أساليب (سنتحدث عنها) في تحصيل المال الكافي للإنفاق على أوجه النشاط الدعوي المختلفة، وقد يكون لها أملاك خاصة تدر عليها أرباحا، ولكن العطاء الذي يمنحه الأفراد لدينهم يبقى هو الأصل والباقي كله فرع.
فالدعوة تحتاج أفرادًا كأبي بكر وعثمان وعبد الرحمن بن عوف وأضرابهم من أثرياء الصحابة ممن أوقفوا أموالهم وأنفسهم في سبيل الله، فلم يقدموا على البذل للدين زوجا ولا ولدا؛ وذلك لأن الأصل أن المسلمين ما وجدوا إلى ليكون الإسلام مصدر عزهم في هذه الدنيا، فهم يبذلون في سبيل رفعته ونصرته، ويعلمون أن أي مال ينفق في سبيل الدين فهو في سبيل إعزازهم هم. ومن هنا كثرت النصوص الآمرة بالإنفاق، الداعية إلى البذل، لأن الإنفاق في حد ذاته عبادة مقصودة لكل مسلم، قال تعالى: {والذين في أموالهم حق معلوم للسائل والمحروم}.
ونحن لن نعول كثيرا على إنفاق الحكومات، وإن كان مهما في ذات الأمر، وذلك لما يصحبه من مداخلات ومعوقات تقلل من فائدته، وتحول بينه وبين الانتفاع المثمر.
أسس لتوفير المال
ومن أهم الأسس التي يجب أن تعول عليها الدعوة الإسلامية في توفير النفقة اللازمة للمشروعات الدعوية أساس المبادأة في تحصيل النفقة والتبرع، لا الانتظار لما يفيض به المحسنون على الدعوة من فضول أموالهم؛ فيجب أن يلتزم كل الدعاة والمنتمون للصحوة بمبلغ مالي معتبر يقدمونه للدعوة كمورد ثابت، كل حسب استطاعته، كما يجب أن يسعى الدعاة لدى المحسنين من ذوي الكرم والمروءات والنجدة والديانة ليمدوا مشروعات الدعوة بما تحتاجه، ومن الأفضل أن تكون مشروعات الدعوة مدروسة ومنظمة ومعروضة على شكل بيان مكتوب، يمكن تقديمه للمحسنين ليقتنعوا بوجود مشروعات حقيقية تقوم بها الدعوة، والسيئ أن بعض الساعين في الأعمال الخيرية ضربوا مُثُلا غير لائقة في جمع التبرعات حتى احتاط أهل الإحسان في أموالهم فلم يعد البذل كما كان في الماضي لتغير الزمان وكثرة المتسلقين واللصوص الذين اقتحموا الميدان، فإلى الله المشتكى.
إدارة وكفاءة
كما يجب أن تقوم الدعوة بدور فاعل في جمع زكاة المال من المسلمين، إذا تيسر دون مشكلات أو مضايقات، وكذلك حث الناس على أبواب الخير الأخرى، كالصدقات المطلقة والصدقة الجارية والوصية قبل الموت والوقف على أعمال البر وكفارات الأيمان والنذور، ورعاية طلبة العلم وبناء المساجد وحفر الآبار ونحو ذلك من أوجه الإنفاق وأضعاف ذلك ولا ريب.
وإذا تصدرت الدعوة لمثل هذا النشاط فلا بد أن يكون لديها جهاز إداري ذو كفاءة وقدرة على عملية جمع النفقة وإدارتها وكيفية إنفاقها أو استثمارها على حسب الضوابط الشرعية التي أقرتها الشريعة؟؟؟ .
كما أنه من الأهمية بمكان أن يكون لهذا الجهاز الإداري لجنة شرعية تراقب تعاملاته، أو أن يستعين ذاك الجهاز بالعلماء ويستفتونهم في المسائل المتعلقة بعملهم.
إن المال المبارك الذي ينفقه أي مسلم على الدعوة جزء من الجهاد في سبيل الله، بل ركن عظيم منه، وجُلُّ الآيات التي تحدثت عن الجهاد في سبيل الله قرنت الإنفاق بالقتال... وليست العبرة بالكثرة، بل العبرة بفعل النفقة نفسها، وقد قال صلى الله عليه وســلم: (سبق درهم مائة ألف درهم: رجل له درهمان أخذ أحدهما فتصدق به، ورجل له مال كثير فأخذ من عرضه مائة ألف فتصدق بها). رواه النسائي وحسنه الشيخ الألباني في صحيح الجامع.
ويغيب عن كثير من الدعاة والغيورين على الصحوة حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (أحب الأعمال إلى الله أدومها وإن قل). فما داوم الناس في إنفاقه على الدعوة - وإن قل - أكثر بركة وأعظم نفعا من الكثير المنقطع، فالله عز وجل إذا أحب عملا من ابن آدم باركه له وأعانه عليه كما قال تعالى: {إن رحمت الله قريب من المحسنين} وكما قال سبحانه: {وإذ تأذن ربكم لئن شكرتم لأزيدنكم ولئن كفرتم إن عذابي لشديد}، وكما قال صلى الله عليه وسلم: (إن الله قال لي: أَنْفق أُنْفق عليك) رواه مسلم في الصحيح.
وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (ما من يوم يصبح العباد فيه إلا ملكان ينـزلان، فيقول أحدهما اللهم أعط منفقا خلفا، ويقول الآخر اللهم أعط ممسكا تلفا) رواه البخاري ومسلم.
وعن أبي هريرة أيضا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ما نقصت صدقة من مال وما زاد الله بعفو إلا عز أو ما تواضع أحد لله إلا رفعه) رواه مسلم أيضا.
إياك والإحباط
وهذه القلة في المال والإمكانيات ما ينبغي أن تفت من عضد الدعاة وتقنطهم من نصرة الله ومعونته، فالعقيدة الصامدة الشامخة مع بذل المستطاع يستجلب معونة الله على حسب موعوده سبحانه في قوله: {كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله، والله مع الصابرين} وقال عز وجل: {ولقد نصركم الله ببدر وأنتم أذلة فاتقوا الله لعلكم تشكرون}، وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن المعونة تأتي من الله على قدر المؤونة، وإن الصبر يأتي من الله على قدر البلاء).
ويمكننا أن نمثل بكرامات معاصرة لإمكانيات قليلة تيسرت للدعاة واستطاعوا بها أن يفتحوا أبواب بلاد وقلوب عباد، ولكننا نمثل بنموذج واضح بين، وهو نموذج الصحوة الإسلامية في العالم كله، حيث تقل الإمكانيات الدعوية أو تنعدم، بل وتحارب من كل قوى الاستكبار العالمي، ويطارد الدعاة ويشردون، وتحمل عليهم وسائل الإعلام بحملات تشويه مسعورة، إضافة إلى ما يعانيه صف الدعاة من فرقة وتشرذم أيضا، ولكنهم يخرجون بعافية أكثر من ذي قبل ونصر أعلى من السابق، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، وما أخال ذلك إلا من بقية إخلاص وقليل من البذل المبارك وعدد من الدعوات الصادقة الخالصة، فكيف بنا نحن معاشر الدعاة لو تمحض صدقنا وإخلاصنا ولو تكاتفت سواعدنا في التعاون والنفقة والبذل لدين الله تبارك وتعالى.
المجهود الفردي
وعلى صعيد المجهود الفردي، فالمال وسيلة مهمة لكل نشاط، ويستطيع كل داعية إلى الله بل كل غيور أن يكون صندوقا للدعوة في كل منطقة ينادي الغيورين على الدين للبذل ولو بالقليل، وقد أخبرني بعض الدعاة أنه يلزم إخوانه ببذل قروش (بمعنى القروش الحقيقي) كل يوم، فتعاظم عنده من المال ما قام به بمشروعات كثيرة.
وإذا تعسر مثل هذا النظام فليجعلها كل داعية في خاصة نفسه، يُسِرُّ إلى إخوانه بمشروعات الدعوة - ولو كانت صغيرة كعيادة مرضى أو تأليف قلب عاص بهدية ونحو ذلك - ويجمع منهم ما يستطيع به تنفيذ ذلك المشروع.
وما أخال الأمر عسيرا على أحد: أن يدخر الداعية من حر ماله هو ما ينفق به على الدعوة، ولا خير في داعية لا يحتوش من طعامه وشرابه ولباسه في سبيل دينه وأمته.