ليست شخصية حالمة تلك التي تتطلع في بذلها للدين أن يصل مجهودها إلى المستوى العالمي. وليست من الأماني الكاذبة أن يتمادى الدعاة في تمني اليوم الذي تصبح دعوتهم الإسلامية شأنا عالميا يحسب له ألف حساب .
ونحن في حديثنا عن قضية خدمة الدين نحاول أن نجمع بين الواقعية والطموح العالي، ونجنح عن الدعة والخطط الساذجة بقدر جنوحنا عن التهور والخيال المستحيل . وفرق بين يقين النصر الذي يمثل دعامة أساسية في عقيدة الداعية، وبين مصادمة السنن الكونية بل والشرعية بزعم أن الله سينصر عباده المؤمنين .
تلك الكلمات السابقة وإن كانت صارمة فهي ضرورية قبل أن نشرع في تفصيل العنوان، ذلكم أن من بدهيات العقول أن النتائج رهينة الإمكانيات، والنجاح قرين البذل المتاح، وتحقق الغاية مرتبط بتحقق الوسيلة، وكل ذلك لا يقدح في كرامة الله لأوليائه بالنصر مع الذلة والقلة، فحديثنا عما يجب أن يعتمل في صدر الداعية من حرص على اتخاذ الأسباب .
حقيقة شرعية
إن عالمية الدعوة الإسلامية هاجس ينبغي أن يلح في طموح كل داعية إلى دين الله تبارك وتعالى، ومشروع ينبغي ألا يغيب عن أذهان الغيورين على دين الإسلام. فهي حقيقة شرعية بلا امتراء، قال الله تعالى: (إن الدين عند الله الإسلام) وقال تعالى: (ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين) وقال تعالى: (كنتم خير أمة أخرجت للناس) وقال تعالى: (وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله له ) وقال تعالى: (هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون).
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله زوى لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها، وإن أمتي سيبلغ ملكها ما زوي لي منها) رواه مسلم .
وقال صلى الله عليه وسلم: (ليبلغن هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار، ولا يترك الله بيت مدر ولا وبر إلا أدخله الله هذا الدين، بعز عزيز، أو بذل ذليل، عزًّا يعز به الإسلام، وذلا يذل به الكفر). رواه أحمد والحاكم .
ضرورة إنسانية
وفوق كونها حقيقة شرعية هي ضرورة إنسانية تستنهض همة كل مشفق على حال البشر وسكان الكرة الأرضية، فالكفر يلف أرجاء الأرض، والفجور يستعلن على حين غفلة من القيم والمثل، وأضحى للكفر والفجور دولة وسلطان، وصارت ممارسات الفسقة تتحلى بغطاء الشرعية، فالكفر يتزيا بحلة حرية الفكر، والشذوذ الجنسي ينافح عن حقوقه تحت غطاء الحرية الشخصية، والمرأة تريد أن تتبرأ من الحياء بزعم التحرر من القيود الجائرة، بل إن براءة الأطفال تغتال بالخطف والاستغلال الجنسي تحت أضواء المدنية الكاذبة .
كل ذلك ألا ينادي على النفوس الأبية أن تسعى لخلاص لتلك البشرية المغلولة، أو تنافح عن القيم والمثل الضائعة في غابة الشهوات والغرائز البهيمية؟!.
لم تعد مسؤولية الدعاة محصورة في نطاق المسجد الذي يخطبون فيه أو يلقون محاضراتهم، وفي حدود قاطني الحي الذي يسكنون فيه، إن حزام المسؤولية يتمادى في الاتساع ليصل إلى كل نفس منفوسة تدب على هذه الأرض. يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (وإن العالم يستغفر له من في السموات ومن في الأرض والحيتان في جوف الماء) رواه الترمذي، وإسناده حسن. قال العلماء في تفسير هذه الحديث: إن العلماء لهم دور في الوصية بالكائنات الحية، حتى إنهم يوصون الناس بإحسان الذبحة كما أوصى الرسول صلى الله عليه وسلم، فنفعهم عام على كل الخلاق، ولذلك تتذكرهم بالخير والدعاء.
وإذا كان هذا حال الحيتان فما بال البشرية التي التائهة في سرداب شهواتها؟! إنها أحرى بأن تحتل مساحة من اهتمامنا معاشر الدعاة. وقد كاد النبي صلى الله عليه وسلم أن يهلك نفسه حزنا على الناس ألا يكونوا مؤمنين، وسهر الليالي ساجدا يدعو ربه متضرعا: أمتي أمتي! فصلى الله وسلم على ذلك النبي الشفيق الذي حمل هم توصيل الدين إلى كل البشرية.
الواقعية لا الأحلام
وإذا كانت هذه الهمة العالية تمثل نسيجِ طموحِ كل داعية إلى الله تعالى، فإنه إزاء تعظيمه لشعائر الله وفرائضه يأبى أن يكون مجرد مراهق ينشغل بالأحلام والأماني الخادعة، ويجمح وراء خيال هاو وسراب كاذب.
إنه يمزج هذا الطموح بتخطيط واقعي، ويبني آمالا صادقة على جهود مخلصة، ثم يكل النتائج إلى الله تبارك وتعالى. هو لا ينظر إلى كراسي الحكم والسلطة بقدر ما يتمنى أن يحوز كرسيا واحدا في جنة الخلد. يحدوه الطمع في رضا الله فيبذل حق البذل ليحوز السلعة الغالية {إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنـة}.
إنه قليل الكلام كثير العمل، سريع التأثر بواقع المسلمين والاستجابة لنداء البذل، إذا ما أقبل على عمل دعوي تسامى في العطاء له، وإذا فكر في مشروع أعد له العدة الكاملة، يتخذ الأسباب التامة محاطة بتوكل على الله وثيق، يحترم التخصصات ويأبى الفوضى والارتجالية، إنه مثال الداعية الذي يحمل هما عالميا، ويغذيه طموح عال، ومثل هذا تفتقر إليه الدعوات العالمية، ويعد طاقة دفاقة لكل من حوله من العاملين .
عالمية الدعوة في عالمية الداعية
إن نصف مساحة العالم الإسلامي دخلت في الإسلام صلحا ودعوة ومعاشرة لا عنوة وحربـا، مما يثبت أن عالمية الإسلام في عالمية الداعية، وأن السيف لم يرفع إلا على الظالمين والغاصبين لحق البشرية أن تؤمن بربها وإلهها.
وإن تغلغل الإسلام في أوروبا والأمريكتين بل وفي روسيا والصين وإفريقيا وأستراليا مع قلة الدعاة وضعف الإمكانيات لدليل على أن هذا الدين الحق لو قُيض له من الحملة من يجهرون به في كل ميدان ويطوفون به في كل صقع لتغيرت خريطة العالم في سنوات معدودة .
إن طرق خدمة الدين كثيرة، وأساليب نشره بين الناس وفيرة، وميادين النداء إليه شاسعة، وما سطرناه في هذه الأوراق مساهمة متواضعة نحو عالمية الدعوة، فمن أمانينا أن تتجيش كل الطاقات في خدمة الدين فنفاجيء الباطل بجندي للحق في كل شبر على وجه الأرض، ونجابه الظلم والطغيان، ونواجه الكفر والفجور، ونضيق الخناق على إبليس وجنوده، ونحكم الحصار على إغواءات الشياطين.
إن عالمية الدعوة ستتحقق بجلاء ويقين يوم نرى كل مسلم يساهم بأي جهد في سبيل دينه وأمته، يوم نرى كل مسلم يحاسب نفسه: ماذا قدم لدينه وأمته؟ يوم نرى حديث الناس في المقاهي والطرقات والبيوتات ومجالس السمر يدور حول هم الدين وشأن المسلمين، يوم نرى الأسرة تَدَّخِرُ من قوتها رغيفا تبذله لجائع أو محتاج ، يوم نرى الأغنياء يتبارون في أَرْيَحِيَّة صِدِّيقِيَّة نحو الإنفاق في سبيل الدين، يوم نرى الدعاة قدوة لغيرهم في حمل أمانة الدعوة وتبليغها للناس.(ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز) .