بعد أن قويت شوكة الإسلام وأرسى دعائم دولته ، دخلت فيه بعض القبائل ، ولَمّا يتمكن الإيمان من قلوبها ، ولم تكن مهيأة بعد لاحتمال مشاق الدعوة وعقبات الطريق ...وإن شئت قل : إن دخول تلك القبائل في الإسلام لم يكن موقفاً خالياً من المصالح الذاتية التي بدت لهم ، ولذلك نجدهم يتراجعون عند أول صدمة ، بل ينتهزون الفرص لبث الفوضى ، وإثارة القلاقل ، وتأليب الناس على المسلمين . وهذا ما كان من شأن قبائل قُضاعة .
فبعد عودة المسلمين من غزوة مؤتة إلى المدينة ، جهز رسول الله صلى الله عليه وسلم جيشاً يتكون من ثلاثمائة من المهاجرين والأنصار بقيادة عمرو بن العاص إلى "ذات السلاسل" - بمشارف الشام- بهدف تأديب قبائل قُضاعة التي غرّها ما أصاب المسلمين في مؤته ، مما دفعها إلى التعاون مع الروم ، والعمل على مهاجمة المدينة .
وعندما وصل عمرو إلى القوم ورأى كثرة تجمعهم ، أرسل إلى الرسول صلى الله عليه وسلم يخبره بأمرهم ، فأمدّه بمائتي مجاهد بقيادة أبي عبيدة بن الجراح ، فاتحدوا جميعاً ، واتجهوا إلى بلاد قُضاعة ، حتى أتوا على أقصى البلاد ، وفرقوا جمعهم ، وحمل المسلمون على من بقي منهم فلم يثبتوا أمام المؤمنين ، وفروا هاربين منهزمين ، وكتب الله النصر لعباده ، ونجح المسلمون في إرجاع هيبة الإسلام بأطراف الجزيرة الشمالية ، ناحية الشام ، مما كان له الأثر في عودة القبائل إلى أحلافها مع المسلمين ، وإسلام الكثيرين من بني عبس وذبيان ومرة وفزارة ، ثم تبعهم بنو سُليم وعلى رأسهم العباس بن مرداس ، وبنو أشجع ، حتى قوي شأن المسلمين ، ووافق بعث هذه السرية في جمادى الآخرة سنة 8 هـ .
وفي رجب من العام نفسه لحقتها سرية الخبط ، بقيادة أبي عبيدة بن الجراح ، في ثلاثمائة من المهاجرين والأنصار ، وزودهم رسول الله صلى الله عليه وسلم جراباً من تمر ، فكان أبو عبيدة يقبض لهم قبضة ثم تمرة تمرة ، فكان أحدهم يلوكها ، ويشرب عليها الماء ، فلما نفد ما عندهم أكلوا الخبط - ورق السمر- ، وأصابهم جوع شديد ، ثم أنعم الله عليم بحوت ضخم ، يقال له "العنبر" ، ألقى به البحر إليهم ميتاً ، فأكلوا منه حتى شبعوا ، وأحضروا منه لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، وفي الصحيح : ( كلوا رزقاً أخرجه الله ، أطعمونا إن كان معكم ، فأتاه بعضهم بعضو ، فأكله ) متفق عليه .
وفي شعبان من العام نفسه لحقتها سرية " أبي قتادة " ومعه عبدالله بن أبي حدرد الأسلمي إلى الغابة ، لكسر شوكة قيس بن رفاعة الذي كان يريد جمع قيسٍ على محاربة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكان عدد السرية خمسة عشر رجلاً ، فتم قتل زعيمهم ، وشُرِّد أتباعه ، وعاد المسلمون إلى المدينة منتصرين غانمين .
وفي أول شهر رمضان سنة 8هـ اتجهت سرية لأبي قتادة إلى بطن إِضَم - موضع ماء بين مكة واليمامة - ، في ثمانية نفر ، بهدف التمويه على قريش ، لتذهب الأخبار أن رسول الله صلى الله عليه وسلم متوجه إلى تلك الناحية .
تلك البعوث الجهادية وغيرها يؤخذ منها دروس وعبر ، تتعلق بتدريب القادة العظام ، وتأهيل المجاهدين الأفذاذ , والتربية على الصبر والطاعة ، والعمل على تأمين حدود دولة الإسلام ، وإعادة ضعاف القلوب إلى الإسلام ، وإيقاف من تسول له نفسه المساس بالمسلمين عند حده ، فأهل الإسلام قد يُبتلون في بعض المواقف ، كما كان الأمر في غزوة أحد ومؤته ، لكنهم سرعان ما يعودون إلى كسب النصر والتأييد والتمكين ، بتوفيق الله لهم وإنجاز وعده .
وذلك لأنهم أصحاب الدين الخاتم ، الذي يحمل للإنسانية الخير والسعادة ، فهم يهدفون في كل تحركاتهم نفع الناس ، بدعوتهم إلى توحيد الله وعبادته واتباع دينه ، قال تعالى: { وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله فإن انتهوا فلا عدوان إلا على الظالمين } (البقرة:193) ، والله الموفق.